يتمتع الصديق خالد الحروب بقدرة بالغة على الإدهاش عندما يناقش قضية اختارها منطلقاً من افتراضات صاغها ثم حولها، في لحظة طرحها، إلى مسلمات من دون اثبات أي منها. فقد أراد، في مقالته الانتساب الى الغرب .. كعب اخيل الليبرالية العربية - الحياة 30/8 أن يناقش مشكلات الليبرالية العربية في الواقع الراهن. وهي مشكلات كثيرة ومعقدة، مثلها في ذلك مثل اتجاهات الفكر السياسي العربي كلها وخصوصاً الماركسية العربية والقومية العربية. وإذا كان الإسلام السياسي العربي وجد أرضية في هذا الواقع فليس لأنه أفضل حالاً في بنيته الفكرية، ولكن بسبب استثماره الخلط بينه وبين العقيدة الإسلامية. ومع ذلك، فلنبق مع الليبرالية العربية المأزومة حتى النخاع ولكن لأسباب أبعد من افتراضات خالد الحروب الثلاثة التي اعتبرها مسلمات من دون أن يثبت أياً منها. لقد افترض - أولاً - أن الدعاوى الليبرالية ملتصقة بالغرب وتؤكد مرجعيته الفكرية والتنظيرية. ولم أفهم أي دعاوى هذه. هل الحرية التي تعتبر تراثاً للإنسانية، ولنا أيضا إلا إذا لم نكن جزءاً من تاريخ البشرية، فضلاً عن أن الدعوة إليها صارت قاسماً مشتركاً بين مختلف الاتجاهات الفكرية في العالم العربي مثلها مثل الديموقراطية والمجتمع المدني. أم ترى هي العلمانية التي يبز الماركسيون واليساريون العرب عموماً الليبراليين في تأكيدها، فضلاً عن قسم يعتد به من القوميين العرب. وحتى دعاوى مثل السوق والملكية الخاصة نجدها شائعة في قطاع كبير من الفكر الإسلامي. ثم هو افترض - ثانياً - أن الليبرالية العربية تعتبر أميركا هي موئل الليبرالية وحارستها. ولا أستغرب أكثر من هذا الافتراض لأن القوى المحافظة والأصولية المسيطرة على أميركا الراهنة سياسياً وفكرياً هي الأشد عداء لليبرالية في عالم اليوم. وحتى الحزب الديموقراطي الذي كان الليبراليون الأميركيون هم التيار الأهم فيه صاروا مهمشين في داخله بعد صعود اتجاه يميني يعتبرهم نقطة ضعف تحرم الحزب من استعادة دوره بعد أن نجح المحافظون الجدد في محاصرة أفكارهم المتعلقة بالرعاية الاجتماعية في الداخل ونبذ غطرسة القوة في التعاطي مع المجتمع الدولي. فإذا كان الفكر الليبرالي يتعرض الى حرب شعواء في أميركا اليوم، فكيف ننتظر ممن يحاربونه أن يكونوا حراسه؟ هذا عن أميركا من الداخل. أما سياستها الخارجية الراهنة فهي تدمر ما بقي من صلة للعرب بالليبرالية والعصرنة بما تحمله من مواقف منحازة لإسرائيل ومناقضة لمبدأ تقرير المصير الذي قدمته أميركا الى العالم منذ ما يقرب من قرن من الزمن. فلم تجن الليبرالية العربية من الغرب عموماً إلا الويلات. وما تفعله أميركا الآن سبقتها إليه بريطانيا في مستعمراتها السابقة. فقد سدت آفاق التطور الليبرالي في معظمها عندما ماطلت طويلاً في الإقرار بحقها في الاستقلال الكامل. وفي مصر، مثلاً، تتحمل بريطانيا مسؤولية كبرى عن انهيار النظام شبه الليبرالي وقيام ثورة 1952 التي كانت بداية محنة الليبرالية العربية كلها. وذهب الحروب، في افتراضه الثالث، الى أن الليبرالية العربية لم تقدم نفسها كمشروع عربي وطني، ما جعلها أداة في يد الأجنبي. ولا أعرف أيضاً من أين أتى بهذا الافتراض الذي اعتبره إحدى المسلمات. فهل قام، مثلاً، بدراسة حصرية أو تحليل مضمون لكتابات الليبراليين العرب كلهم وخلص إلى أن غالبيتهم لم يقدموا أفكارهم كمشروع وطني ؟ والأكيد أن بعضهم كان مجرد ناقل أفكار ومفاهيم، مثلهم في ذلك مثل كثير من الماركسيين العرب الذين ذهبوا الى مدى أبعد في هذا المجال. ولكن الكثير من الليبراليين العرب ربطوا الأفكار التي آمنوا بها بالواقع العربي، بل كان بعضهم توفيقياً الى حد اقترب من التلفيق. ثم إن نقل أفكار هو نوع من التفاعل الذي يمكن أن يكون خلاقاً. وكم نقل قوميون عرب من الفكر القومي الألماني، وإسلاميون عرب من الإسلام السياسي في الهند وباكستان. لقد بدأ النقل من الفلسفات الليبرالية الغربية في مطلع الاحتكاك بالآخر الغربي بعد الحملة الفرنسية على مصر والبعثات التعليمية وكان رفاعة الطهطاوي هو الرائد في هذا النقل. ولكنه وضع ما نقله في إطار مشروع وطني الى درجة أنه تعرض الى انتقادات ممن اعتبروه نزغاً الى التلفيق. وكان آخر ما قرأته، في إطار هذا النقد، مقالة بديعة نشرت على هذه الصفحة للكاتب اللبناني جميل قاسم في 10 كانون الأول ديسمبر الماضي تحت عنوان عودة الى تخليص الأبريز في تلخيص باريز والليبرالية الملتبسة. وإذا قفزنا الى مطلع القرن العشرين، عندما راج الفكر الليبرالي في مصر، نجد أحد رواده وهو د. محمد حسين هيكل حريصاً على التمييز بين الصالح والطالح في الليبرالية وتجاربها في أوروبا منذ أن ذهب الى باريس لنيل درجة الدكتوراه التي كان هو أول مصري حصل عليها، وسجل ذلك في مذكراته المنشورة في غير موضع منها. وأوضح أن ليس كل ما رآه في باريس خيراً. فقد رأى مثلاً في حركة البلد الكبيرة ما يحوي شيئاً كثيراً مما أشهد للقوم فيه بالنبوغ والتفوق. كما أن لهم من الأغلاط والخطأ. وعندهم من مواضع النقد ما لا يغيب عن النظر. كانت الحرية هي التي شدته .. حرية الأفراد وحرية الوطن. ولكنه لم ينظر اليها بمعزل عن الظروف المحيطة على رغم أن رياح الغرب كانت تعصف بالعالم العربي في ذلك الوقت. وهذا، وكثير غيره، ينفي الاتهام الأساس الذي يمثل قاسماً مشتركاً في افتراضات الحروب الثلاثة، وهو أن الليبرالية العربية "مستوردة"، وأن مستورديها لم يقوموا ب "توطينها" وكان عليهم أن يبحثوا عن شيء قريب منها في تجربتنا التاريخية. والحديث عن استيراد الأفكار ليس جديداً، ولكنه حديث سياسة لا حديث فكر. وقد استخدم اتهاماً عانى منه الماركسيون العرب أكثر من غيرهم. وبعد أن اخترعت نظم حكم عربية تهمة الأفكار المستوردة لضرب اليسار خصوصاً، ذهب بعض المثقفين الإسلاميين والقوميين الى اعتماد تصنيف، مستمد في أساسه من هذا الاتهام، جعل الأفكار نوعين: أحدهما موروث أو أصيل الإسلام السياسي والقومية العربية، والثاني وافد الليبرالية والماركسية. وهذا تصنيف خطأ أو على الأقل مطعون فيه لأن النظر الى الأفكار باعتبارها سلعاً تستورد يجعل لكل فكرة امتداداً في الخارج وبالتالي يصبح الاستيراد قاسماً مشتركاً بين الجميع. أكثر من ذلك يجوز القول إن نسبة المكون الأجنبي في الفكر القومي العربي، ما دمنا في مجال تسليع الأفكار، تفوق نسبته في أي فكر عربي آخر. فللماركسية أساس في تراثنا هو العدل، ولليبرالية سند في هذا التراث أيضا هو الحرية. ولكن الفكر القومي العربي بني بكامله على فكرة غربية المنشأ لا وجود لها في تراثنا وهي الدولة القومية. كما أن الهند وباكستان هما من أهم بلاد المنشأ، بلغة تسليع الأفكار أيضا، بالنسبة الى الإسلام السياسي العربي. فالجميع في الاستيراد سواء إذا صحت معاملة الأفكار مثل السلع. ولكن الأصح هو أن الجميع في الأزمة سواء، وأن أحداً لا يسعى جدياً الى مواجهة المصادر الحقيقية لأزمته والخروج منها. وأزمة الليبرالية العربية أكبر وأعمق من مجرد انتسابها أو عدم انتسابها للغرب. فالليبرالية تنحسر في العالم الذي يزداد فيه الميل الى التطرف والتعصب والانغلاق. فهي تواجه أزمة تطور لأنها ظهرت في مرحلة تاريخية انتقل فيها العالم من الزراعة والإقطاع الى الصناعة ودور رأس المال. غير أن العالم يغادر الآن عصر الثورة الصناعية الاولى والثانية ويدخل في الثورة أو الموجة الثالثة التي يعتمد التقدم والازدهار الاقتصادي فيها على المعرفة والعقل أكثر من رأس المال والموارد. صحيح أن فكرة السوق ما زالت قائمة، ولكن المعرفة صارت هي اللاعب الأساس فيها والأكثر أهمية على الإطلاق. فهذا عصر جديد يتجاوز فيه العالم الأسس الموضوعية الليبرالية التي تواجه، والحال هكذا، أزمة تطور تكون بعدها أو لا تكون في العالم الجديد. ويتوقف ذلك على امكان تجديدها عبر إبداع فكري تشتد حاجتها إليه. والى أن يدرك الليبراليون العرب ذلك سيظلون في عالم آخر يشغلون أنفسهم ويضيعون وقتهم في حوارات القرنين التاسع عشر والعشرين عن الرأسمالية والاشتراكية ويخوضونها بحماس شديد، فيما يشغلهم غيرهم بقضايا من نوع الهوية والنسب والمرجعية. * كاتب مصري. مساعد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية.