قوى «الإسلام السياسي» هي الجيل الرابع من النخب السياسية العربية بعد القوى الليبرالية، والقوى القومية، والقوى اليسارية. وليس التحقيب هذا على مقتضى التعاقب في الزمان، وإنما على مقتضى «التداول» على السلطة. وإذا كان «الإخوان المسلمون» وحدهم من الإسلاميين يحكمون، اليوم، في عدةٍ من البلدان العربية، فكذلك الليبراليون والقوميون والماركسيون لم يحكموا جميعاً، في ما سبق، ولا تعدت سلطتهم بلداناً بعينها. والمقارنة، بهذا الحسبان، جائزة بين هذه النخب، وجائز النظر إليها بما هي طريقة في الإدراك السياسي لتاريخ الثقافة السياسية لدى النخب العربية، على رغم أن حقبة حكم الإسلاميين ما زالت في بدايتها، ولكنها البداية التي تفصح عن المخبوء ولا تضمره! حملت تجارب النخب السياسية العربية في السلطة، سابقاً، مثل الذي يحمله سواها من تجارب في النتائج، فكان من ثمراتها الغث والسمين، النافع والضار، الإيجابي والسلبي، التقدمي والنكوصي. وكما سيكون من باب الإجحاف والظلم نكران ما قدمته تلك التجارب من مساهمات في البناء والتقدم، وما حققته من مكتسبات ثمينة يمكن التأسيس عليها، سيكون من باب المكابرة والتبريرية عدم النظر، بعين النقد، لما وقعت فيه من انحرافات، وما ارتكبته من أخطاء، أفضت إلى أوضاع في غاية السوء، بل وأتت بمعاول الهدم -أحياناً- على مكتسبات أحرزت في ما مضى. هنا قراءة سريعة لتلك الحصيلة. ساهم الليبراليون، مساهمةً ريادية، في التشديد على أفكار الحرية والدستور والتمثيل الوطني النيابي، وتظهيرها بما هي أساسات ينهض عليها صرح الدولة الوطنية الحديثة. وهم أنفسهم كرسوها في السلطة حين أداروها في فترة ما بين الحربين، ونعمت الحياة السياسية في عهدهم بقدرٍ ملحوظٍ من الاستقرار في النظام التمثيلي والحريات العامة. ولكن الليبرالية العربية لم تظل وفية لمشروعها الديموقراطي الوليد، فقد كان موقفها من المسألة الوطنية سيئاً، وما تحرجت -أحياناً- في مهادنة الاستعمار والتعاون معه! كما أن مشروعها الاقتصادي «الليبرالي»، لم يخرج عن نطاق التبعية للنظام الرأسمالي، فمالت إلى تبجيل الملكية الخاصة، وتصميم التنمية على فكرة أولية القطاع الخاص، لينتهي الأمر بأبنائها وأحفادها إلى بيع ممتلكات الشعب والدولة للخواص، والوقوف متسولين على أبواب «صندوق النقد الدولي»، والامتثال الخنوع لتوصياته وإملاءاته! وها هي «ليبراليتهم» تأخذ المجتمع إلى حتفه، حيث الغالبية الساحقة من «المواطنين» تحت خط الفقر، وحيث عشرات الملايين من الناس تعيش في مدن القصدير والمقابر والكهوف، والآلاف يقضون في رحلة الموت في القوارب! وقدم القوميون (الناصرية و «البعث») أرقى مساهمة في نشر أفكار التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والأمن القومي والوحدة العربية. وطبقوا، في السلطة، كثيراً من هذه المبادئ: الإصلاح الزراعي، والتصنيع الثقيل، وسياسة التخطيط المركزي، ومحورية القطاع العام -في الميدان الاقتصادي - والتوزيع العادل للثروة، وإشراك العمال في ملكية المؤسسات الإنتاجية وإدارتها، والتقليص من الفوارق الطبقية الفاحشة، وتعميم التعليم والطبابة ومجانيتها، وتوفير السكن للفقراء والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى -في الميدان الاجتماعي- ومواجهة الأحلاف الامبريالية والمشروع الصهيوني، ودعم حركات الاستقلال الوطني، والتزام سياسات الحياد الإيجابي والتحالف مع القوى التقدمية في العالم في ميدان الأمن القومي والاستراتيجيات العليا. لكنهم أقاموا نظاماً شمولياً، وكبتوا الحريات السياسية وحرية الصحافة، ووقفوا من الحقوق الديموقراطية موقفاً مناهضاً، وقمعوا المعارضة، واحتكروا السلطة معيدين إنتاج النموذج السوفياتي في بلدانهم! أما اليساريون العرب فما قيض لهم أن يحكموا سوى في اليمن الجنوبي سابقاً (1967-1993). ولم يختلف نموذج حكمهم، إيجاباً وسلباً، عن النماذج القومية في مصر والعراق وسورية (ومثيلتها في الجزائر البومدينية) مع حفظ الفارق بين إمكانات «اليمن الجنوبي» المحدودة، وإمكانات البلدان تلك، علماً أن الأمر لم يكن ليختلف -كثيراً- لو حكم الماركسيون العرب بلداً فقيراً وصغيراً، مثل اليمن، أو بلداً كبيراً مثل مصر أو العراق، فالثقافة السياسية هي نفسها في الحالين، ولذلك ما كانت النتائج لتختلف إلا في الجزئيات والفروع، لا في الكليات والأصول. اليوم، يجرب الإسلاميون ما جربه من كانوا قبلهم في السلطة. ومنطق العقل يقضي بأن يستفيد المتأخر (في الزمان) بالمتقدم، وأن يبني اللاحق على تجربة السابق، عملاً بقانون التراكم، فيتعظ بدروس تجربة من سبقه آخذاً منها لبابها، ومطرحاً القشور، ومتمسكاً بحسنها مجتنباً سيئها. وعلى ذلك، كان أمل كثيرين أن يفلح الإسلاميون في تحقيق المعادلة الذهبية في السياسة وإدارة السلطة: الاستمرارية في تعظيم مكتسبات السابقين، والقطيعة مع أخطائهم وخياراتهم الفاشلة، التمسك بها هو إيجابي ومشرق في مشروعهم، واستئنافه وتعظيمه، وعدم الوقوع في خطأ إعادة إنتاج ما هو سيء في ذلك المشروع. غير أن الأمل خاب في أن يهتدي الإسلاميون إلى سلوك هذا السبيل، فها هم -بدلاً من ذلك- يذهبون في الاتجاه الخاطئ: يدمرون الأفضل، ويعيدون إنتاج الأسوأ! لم يأخذوا من الليبراليين أفكار الحرية والديموقراطية والدستور، وإنما أخذوا -حصراً- الاقتصاد «الحر» والخوصصة، والاستدانة، وحماية مصالح قوى الرأسمال الطفيلية، مثلما استسهلوا التعاون مع الأجنبي وطمأنته على علاقات التبعية! ولم يأخذوا من القوميين واليساريين أفكار التنمية المستقلة، والعدالة في توزيع الثروة، ومواجهة الأحلاف الامبيريالية والمشروع الصهيوني، وإنما أخذوا منهم نموذج السلطة الشمولية، واحتكار السياسة، وتهميش المعارضة وإقصاءها، والتضييق على الحريات...الخ، ليعيدوا -بذلك- عقارب التاريخ إلى الوراء! * كاتب مغربي