كتاب "حركة القوميين العرب"، نشأتها وتطورها عبر وثائقها 1951-1961، تحرير هاني الهندي وعبدالإله النصراوي، صدر مجلده الثالث عن مؤسسة الابحاث العربية في بيروت احد افضل المراجع التي تدرس وتوثق لمرحلة تاريخية كانت حبلى بالأحداث الجسام تأسيس دولة اسرائىل، قيام وحدة 1958، وحرب 1967 وانعكاساتها، وما تلا ذلك. وحركة التحرير العربي بمختلف قواها الحية عجزت عن تحقيق اهدافها في تحرير فلسطين، وفي انجاز مشروع النهضة الوحدوي، وفي توسيع المشاركة الشعبية الديموقراطية في ادارة شؤون المجتمع. ان هذا التقويم يؤكد صدقية ما ذهب اليه المحرران في كتابهما المذكور ص40. ويظل السؤال مطروحاً: لماذا عجزت حركة التحرر العربي في انجاز مهماتها؟ هل العجز في البنية العقائدية، ام العجز في البرنامج؟ وهل كان اسلوب العمل المتحقق منسجماً مع طبيعة كل مرحلة؟ إن محطة مهمة في تاريخ النضال العربي في العقود المنصرمة من القرن العشرين تشير الى ان العجز كان يتلازم مع مستوى الوعي الجمعي العربي حول طبيعة المخاطر والمقاصد التي طرحتها الامبريالية والصهيونية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي الفضاء العقائدي كانت التناقضات في داخل حركة التحرر العربي تتخذ محورين: محور الوحدة العربية، ومحور تحرير فلسطين، على رغم التقاء الأحزاب كافة على مواجهة امراض المجتمع المتمثلة بالفقر والمرض والجهل والأنظمة الاستبدادية المرتبطة بقوى الخارج. وعائدية هذا التناقض تعود الى جذور الانتماء العقائدي الماركسي - اللينيني كما يدعي اصحابه من جهة، والأحزاب والقوى القومية التقدمية البعث - القوميون العرب - عبدالناصر من جهة ثانية. فالأحزاب الشيوعية العربية في النصف الاول من القرن العشرين كانت تترجح ما بين التبعية للسوفيات وبين الاستقلالية في النظرة الى الواقع العربي المجزأ والى قضية فلسطين ووجود اسرائىل. وكان فهم الشيوعيين ل"المسألة القومية، بل مشروعهم السياسي العربي مقارباً وفي احيان كثيرة مماثلاً للمشروع القومي العربي طوال العشرينات وحتى النصف الثاني من الثلاثينات من القرن العشرين. فالأحزاب الشيوعية في سورية ولبنانوفلسطين عقدت مؤتمراً لها في 1931 حددت طبيعة مهماتها الجوهرية في النضال "الثوري ضد الامبريالية على ارض الشرق الادنى المشرق العربي الواسعة هي حل المسألة القومية العربية". وتضمنت الوثيقة الصادرة عن المؤتمر اهمية النضال المشترك ضد الامبريالية الاوروبية المستعمرة لأقطار الوطن العربي مشرقاً ومغرباً. وتؤكد الوثيقة ان جوهر المسألة القومية العربية تكمن بالضبط في ان الامبرياليات الانكليزية والفرنسية والايطالية والاسبانية قد مزّقت هذا الجسد الحي الذي كان يتشكل من الشعوب العربية، وفي ابقاء البلدان العربية في حال انقسام إقطاعيّ... وفي الحؤول دون الوحدة القومية وقيام دولة موحدة للشعوب العربية" ص17. في ظل هذا النفَس القومي عُقد مؤتمر زحلة لبنان في آذار مارس 1934 الذي ضمّ الحزب الشيوعي السوري - اللبناني، وعصبة العمل القومي تأسست سنة 1933 والحزب الوطني التقدمي السوري، وضم في عضويته عن الشيوعيين: سليم خياطة صاحب فكرة المؤتمر ورشاد العيسى ويوسف خطار الحلو ومصطفى العريس، وكان من القوميين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار مؤسسا حزب البعث وابراهيم كيلاني وفؤاد الشايب، ومنير سليمان ممثلاً عصبة العمل القومي. صدرت عن المؤتمر مقررات ذات قيمة ثورية في النظرة الى القضية القومية. وتقرر إصدار مجلة باسم "الطليعة" تطرح قضايا المجتمع وقضية التضامن العربي والوحدة العربية صدرت عام 1935 وتوقفت عام 1939 مع بداية الحرب الكونية الثانية. وأصدر المؤتمر كراساً في عنوان "في سبيل الوحدة العربية"، وأكد على "اننا نحن العرب نعتقد ان القضية العربية هي قضية قومية بحتة، وهدف القضية العربية تامّة لا تتجزأ أو لا يمكن ان تتناثر أجزاؤها... ولأمتنا العربية تاريخ مجيد ولها على المدنية فضل كبير ونحن نفتخر بكوننا عرباً... ان تدخل الدين في السياسة والدولة أساس مصائب بلادنا، فواجبنا ان نسعى لفصلهما فصلاً تاماً مطلقاً" ص18، فضلاً عن ذلك ان الطابع العام لسياسة الحركة الشيوعية في المشرق العربي كان قريباً من موقف القوميين في ما يختص بالمشروع الصهيوني على أرض فلسطين. لكن ما هو سبب الفرقة والانقسام في داخل حركة التحرر العربي انطلاقاً من مرحلة الأربعينات في القرن الماضي؟ إن مسألة الوحدة القومية وقرار تقسيم فلسطين وانشاء دولة اسرائيل هي من الاسباب الرئيسة التي أدت الى التشرذم والانقسام. فحين صدر القرار الدولي بتقسيم فلسطين واقامة دولة اسرائيل، وذلك بتأييد الاتحاد السوفياتي ودعمه في 29/11/1947، ارتفعت أصوات شيوعية في سورية ولبنان ومصر والعراق وفلسطين تعارض الموقف السوفياتي من قرار التقسيم وتشدد على حقوق العرب. لكن خالد بكداش سورية استطاع ان يبعد المعارضين فيقبل بالقرار الدولي وبقيام دولة اسرائيل، وهذا الموقف اساساً هو موقف الاتحاد السوفياتي. ان غياب الوعي السليم في عقل القيادات الحزبية الشيوعية العربية، على رغم إدراك بعض العناصر القيادية وصدقها، عن ترابط القضيتين القومية - الطبقية وتحرير فلسطين هو ترابط جدلي، أوقع هذه الاحزاب في معظم اقطارها في أزمات وطنية متنوعة. فعدم ادراك قانون الثورة العربية المعاصرة الذي يمكن تلخيصه بتحقيق الوحدة العربية، وإلغاء التجزئة القومية المصطنعة بفعل الاستعماريين لتفتيت الكيان العربي يتلازم ونضال الطبقات الشعبية العربية ضد الرأسماليات المرتبطة بمصالح الغرب الاستعماري. اضافة الى ذلك ان مواقف التبعية للاتحاد السوفياتي أفقد هذه الأحزاب صدقيتها الوطنية والقوميّة على امتداد عقود حيث حرمت الأمة من امكانات هذه الأحزاب في كفاحها ضد الإمبريالية والصهيونية. و"أن تكون اسرائيلياً وشيوعياً" محمود أمين العالم - مصر فهذا خطأ كبير في المنهج والرؤية لا يجوز ان يقع فيه أيّ مؤمن بالماركسية والشيوعيّة لأن اسرائيل - الدولة هي الترجمة الحقيقية والملموسة للصهيونية البنت الشرعية للامبريالية. ويمكن ايجاز نقاط الخلاف في داخل حركة التحرر العربية الى مسائل عدة أبرزها: - الموقف من وجود اسرائيل. - الموقف من الوحدة القومية العربيَّة. - التبعية الى السوفيات سابقاً الذين كانوا ضد الوحدة العربيّة ضمناً لأن التعامل مع الضعيف سياسياً ومصلحياً أسهل من التعامل مع دولة عربية موحدة. الوثائق التي يتضمنها الكتاب جديرة بالدراسة المعمّقة لأنّ اطراد الثورة العربية وتطور وتصاعد جوانبها الوطنية والاجتماعيّة والشعبية والقوميّة المتداخلة يفرض على القوى القومية التمسك بمبدأ شعبية الثورة والعمل على ارساء أسس الديموقراطية في مواقع السلطة أو خارجها ص40. وهذا يتطلب قيام الجبهة الثورية العربيّة بقواها القومية والإسلامية والشيوعية على قاعدة الوحدة والتحرير والعدالة الاجتماعية. لكن النص يظلُّ مفتوحاً أمام البحث في بنية حركة الثورة العربيّة. * كاتب لبناني.