لن تنسى الذاكرة العربية ذلك المشهد الحزين لعشرات الأطفال القتلى في"قانا 2006"بعد سنوات عشر من"قانا الأولى"وستظل الأجيال الجديدة محتفظة بذكريات ذلك اليوم الحزين الذى يجسد العربدة الإسرائيلية وإجرام الدولة العبرية على نحو لا نكاد نجد له مثيلاً في التاريخ، فإسرائيل تستهدف الأطفال لأنها تريد حرق الأكباد العربية على فلذاتها كما أنها تدمر روح التواصل بين الأجيال وتزرع المرارة والكراهية لدى الشباب العربي كله، وهو أمر لن يكون حصاده سلاماً في يوم من الأيام ولكنه سيؤدي فقط إلى تراكم المشاعر العدائية واتساع الفجوة بين الجانبين والتي يبدو أنها لن تنتهي أبداً! وعندما استهدفت إسرائيل لبنان ذلك البلد الرائع فإنها كانت تعبر عن حقد دفين تجاه تجربة فريدة للتعايش بين الديانات والمذاهب، كما كانت تسعى لإعاقة مسيرة التقدم والتنمية في ذلك القطر المشرق الذي نراه قنطرة بين المشرق العربي وأوروبا بل والعالم الغربي كله، ولاشك أن ازدهار الثقافة ونهضة الفنون وتزايد معدلات السياحة، إلى جانب التفرد والتألق اللبنانيين، كانت كلها مصادر حقد دفين لدى الدولة العبرية ورغبة متأصلة تسعى لتحطيم ذلك الكيان العربي الجميل الذي يحوي أروع تجربة للتعايش الطائفي والمذهبي، فضلاً عن تجربته الديموقراطية الرائدة لذلك فإن إسرائيل لا تختار أضعف النقاط في السلسلة العربية ولكنها تختار أكثرها تميزاً وتألقاً، أقول ذلك وصور جثث الأطفال والنساء لا تبرح مخيلتي لذلك انطلق منها لكي أؤكد الملاحظات التالية: 1- لقد ثبت أن إسرائيل هي الراعية الأولى للإرهاب في العالم وهي التي لقنت غيرها دروساً إجرامية، فقد تخصصت الدولة العبرية تاريخياً في إرهاب العصابات قبل 1948 ثم في إرهاب الدولة بعدها. وأنا على يقين من أن الداعمين لها في الغرب يدركون في أعماقهم هذه الحقيقة، ولكنهم يحاولون إيجاد مبرر تاريخي لها يستريحون به ويؤثرون السلامة معه، فالحركة الصهيونية منذ بدايتها وهي تسعى فى بلاط كل من محمد علي ونابليون والسلاطين العثمانيين، إلى جانب دورها الغامض في الحرب العالمية الأولى وخروجها من الحرب العالمية الثانية بنظرية الاستعطاف الدولي الناجم عن"الهولوكوست"لذلك فهي تؤكد دائماً براعتها في توظيف القوى وتوزيع الأدوار على نحو غير مسبوق ربما في تاريخ البشرية كلها، فالعقل العبراني يقلل من شأن الآخرين ولا يرى إلا مصلحته وحده في فضاء الدنيا وساحة الأرض. 2- إن تعرض اليهود لما يسمى"أفران الغاز"التي يتحدثون عنها على يد النازي لا تسوغ لهم الحق في أن يقوموا بممارسات شبيهة وجرائم مثيلة لدى شعوب أخرى لأن ذلك هو التفسير الوحيد لمواصلتها تلك السياسات العدوانية على مدى العقود الأخيرة ونحن نؤمن، والعالم يدرك معنا، أن إسرائيل المعتدية إنما تفرغ شحنات الاضطهاد الأوروبي على أرض الشرق الأوسط مهبط الرسالات وملتقى الديانات، ولكن الكل يصم آذانه ليكتفي بالتعاطف الشفوي أمام المآسي والكوارث التي لا تتوقف. 3- إنني ممن يظنون أن إسرائيل لو وجدت على حدود أكبر دول العالم مثل الصين والهند فإنها كانت ستسبب لها من المتاعب ما لا يقل كثيراً عما سببته لنا، فالعيب كله ليس فينا ولكن جزءاً كبيراً منه يأتي من فلسفة الحركة الصهيونية ورغبتها الدائمة في التوسع والعدوان والتهام حقوق الآخرين وادعاء الضعف والتشدق بالأطروحات الدينية والدعاوى التاريخية. 4- إن الأمة العربية تبدو الآن في أشد مراحل تاريخها غضبا وألماً ولكنها تبدو في الوقت ذاته في أكثر تلك المراحل إرهاقاً وتمزقاً وإحباطاً، وذلك يعني أن الأنظمة القائمة في معظم الدول العربية تحتاج إلى عملية مراجعة أمينة وصادقة تقوم فيها بترتيب أولوياتها وتنظيم خياراتها بدلاً من التوقف عند حدود التبرير والشجب والتنديد، ولعلي لا أضيف جديداً إذا قلت إن العالم لم يعد يستمع جيداً إلينا وأن الضمير الإنساني أصيب بحالة صمم لم يعد قادراً بعدها على التمييز الأخلاقي، فضلاً عن التوصيف المصلحي لدعم السلام العالمي كله، فلقد تعودت الشعوب على سماع الشكاوى العربية وإهمالها حتى أصبحت تراثاً مستقراً في الآلة الإعلامية الدولية وهذا يعني اننا محتاجون إلى خطاب جديد تتخلى فيه الأنظمة عن تحفظها التقليدي وتخرج إلى الدنيا بمعادلات جديدة للمصالح المشتركة بدلاً من العواطف المستهلكة. 5- إنني أظن - ويشترك معي الكثيرون - أن الولاياتالمتحدة الأميركية تخلت عن دورها المطلوب ورسالتها الحضارية وأصبحت أداة في يد قوى خفية تلعب بمصائر العالم وتتصرف بغير توازن وتخلط الدين بالسياسة، لذلك فهي لا تخلو من سياسات مزدوجة ومعايير منحازة بل إنها اكتسبت أكبر قدر من الكراهية في التاريخ الحديث لسياستها التي لا تقوم على أساس أنها القوة العظمى الوحيدة، فهي تحولت إلى طرف مباشر في الصراعات، وهي التي شجعت الإرهاب بكل صوره وزرعت أسباب الشك ودوافع العنف على امتداد خريطة الدنيا كلها، ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن شعبية السياسة الأميركية في أدنى مستوياتها في كل مناطق العالم فهي لا تستمع إلى أحد وتتصرف بتفرد ورعونة لا يتفقان مع مسؤولية القوة العظمى الوحيدة في عالمنا المعاصر. هذه بعض تأملات في ما جرى على الساحة اللبنانية ونتائجه على الصراعات فى المنطقة، ونحن نتصور أن ما جرى سيمثل نهاية فصل كامل فى المواجهة العربية الإسرائيلية وبداية فصل جديد قد يبدو مختلفاً تماماً عن سوابقه وذلك يرتكز فى ظني على ثلاث ظواهر جديدة: الاولى: ان أسلوب المواجهة العسكرية لم يعد قتالاً بين جيوش نظامية ولكنه، وفى ظل الخلل فى ميزان القوى الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل، علَم فصيلاً صلباً من المقاومة اللبنانية هو"حزب الله"أن يتحرك فى المقاومة بأسلوب حرب العصابات وليس بطريقة الاصطفاف العسكري الميداني، ولعلنا أدركنا أن إسرائيل برغم جرائمها فى لبنان وفظائعها التى ارتكبتها بالقصف العشوائي إنما كانت تعبر عن شعور عميق بالغيظ من ضربات"حزب الله"الموجعة فى العمق الإسرائيلي وهو تطور غير مسبوق للعمليات العسكرية فى الحروب العربية الإسرائيلية منذ بدايتها. نعم، لقد حاول صدام حسين بعد غزوه الكويت أن يوجه بعض صواريخ"باتريوت"إلى العمق الإسرائيلي ولكنها كانت أقرب إلى الألعاب النارية منها إلى الصواريخ الموجهة حتى أنها لم تحدث إصابات بشرية باستثناء إسرائيلي واحد مات ذعراً على أثر الصدمة العصبية. لذلك فإنني أظن أن ضربات"حزب الله"- بعد صواريخ القسام - هي تطور نوعي لردع إسرائيل خصوصاً وأن الحروب النظامية معها ليست في صالح العرب بسبب الاعتماد المتزايد والتفوق المعروف لإسرائيل على سلاحها الجوي ولا شك أن أسلوب حرب العصابات على النمط الفيتنامي غير من شكل المواجهة بحيث أصبحت الحرب الإسرائيلية العربية السادسة مختلفة عن سابقاتها. الظاهرة الثانية: راهنت إسرائيل على التباين الطائفي والاختلاف السياسي داخل الدولة اللبنانية وظنت أنها ستنجح فى تحريض الحكومة والجيش اللبنانيين ضد"حزب الله"ولكنها لم تحقق في ذلك نجاحاً يذكر، بل إن اللبنانيين بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم السياسية ازدادوا تماسكاً وأدركوا بوعي حقيقي أن إسرائيل المعتدية دائماً لا تحتاج إلى ذريعة أسر جنديين لها بل إن الأمر كله يتجاوز ذلك إلى مخطط بعيد المدى لا يمكن تجاهله أو إنكار نتائجه. الظاهرة الثالثة: ان موقف مجلس الأمن يبدو مختلفاً هذه المرة عن كل سوابق تاريخه، فحالة العجز الواضحة تجعلنا نرى في الأممالمتحدة حالياً ما يذكرنا بفترة انهيار عصبة الأمم وإصابتها بالعجز عن اتخاذ قرارات رادعة ضد ألمانيا النازية، ولقد بدا مدهشاً ومؤلماً فى الوقت ذاته أن لا يصدر عن مجلس الأمن قرار إدانة لإسرائيل على جرائمها وممارساتها، وكنا تعودنا من كافة النزاعات المسلحة التي تعرض على مجلس الأمن أن يكون قراره الفوري هو المطالبة بإيقاف إطلاق النار ولكن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة فقد أعطيت إسرائيل وقتا إضافيا لتوجه فيه ضربات جديدة إلى المدنيين وتستكمل به مسلسل جرائمها بحق اللبنانيين، بما في ذلك هدم المنازل على النساء والأطفال وقصف البنى التحتية للدولة اللبنانية، وكل ذلك يحدث مع سيناريو موازٍ فى غزة حيث القصف اليومي والقتل العشوائي وحرمان الفلسطينيين من أبسط مطالب الحياة الكريمة. إن ما حدث على الساحة اللبنانية يذكرنا بالممارسات النازية ويزرع الحقد والضغينة داخل الأجيال العربية تجاه إسرائيل العدوانية، فالذي حدث الآن هو أن إسرائيل نجحت فى حقن الأجيال الجديدة في العالم العربي بجرعات كبيرة من الكراهية نتيجة الشحنات المتتالية من الامتهان والاستخفاف بشعوب المنطقة العربية على نحو نجمت عنه طاقات هائلة من الألم الغاضب ومشاعر متداخلة ينبغي أن ندرس نتائجها وتأثيرها على مستقبل التضامن العربي وإدارة الصراع الطويل في المنطقة. * كاتب مصري