حلّت هذا العام الذكرى الخمسون لنكبة فلسطين وسط اجواء احتفالات في اسرائيل واجواء نكبة في الاراضي المحتلة وبدا الامر كله وكأنه مشهد متكرر من احدى مسرحيات شكسبير المليودرامية. ففي حين امتلأ جانب من مسرح العرض بصخب اللاّهين تراكم ممثلو المأساة في الجانب الآخر. والحق انه وباستثناء تبدّل اشخاص الممثلين في الجانبين لا يكاد المتفرج يلاحظ جديداً في هذا العرض الخمسيني سوى ارتفاع نبرة الاصوات التي تكرر الحوار نفسه بلا جديد. ولعله من حق المرء ان يتساءل عن السر في دوام الحماسة العربية على مواصلة العرض بطريقة الاداء نفسها رغم تعاقب اجيال المشاهدين. نحن نعرف ان دولة اليهود قامت بالقوة على أنقاض شعب فلسطين وبدعم معلن من جميع دول العالم القادرة على الفعل. ونحن نعرف انها واصلت امتلاك القوة لدحر كل محاولات هزيمتها. ورأيناها تنجح في صنع دولة قوية متماسكة وديموقراطية، كما اننا نذكر كيف رفضنا القبول بها كدولة واعرضنا عن قرار التقسيم الشهير وقامت الدول العربية بالحلول محل الفلسطينيين في اتخاذ القرار، كما اننا لم ننس بعد كيف اننا خضنا مجموعة حروب تسببنا في إشعالها او جرى الايقاع بنا فيها لنخرج في كل مرة بهزيمة ادت الى فقداننا اراضٍ عربية لم تكن جزءا من ارض فلسطين. كذلك لا يخفى على احد اننا فاوضنا اسرائيل في السر وفي العلن. ولينتهي بنا المطاف بعد هذه المسيرة البالغة المرارة، الى الإقرار شفوياً وكتابةً بحق اسرائيل في الوجود جارة شرق اوسطية مع التحفظ على ذلك الاقرار بطلب إقامة دولة فلسطينية على ماتبقى من الضفة الغربية وغزة. هكذا يرى جيل المشاهدين الجديد ان موضوع المأساة المسرحية لم يتغير والحوار لم يتغير فكل شيء فيها مكرر بما في ذلك الديكور، وحتى الممثلين الجدد حافظوا على اسلوب اداء السابقين نفسه لكن ولأن لكل مأساة عبرة، فإن العبرة التي نخرج بها بعد العرض الخمسين، هي اننا لم نقرر ما نريده ولم نرد ما قررناه طوال كل العقود الصعبة التي مضت، وللانصاف فإنه لا يمكن الإلقاء بمسؤولية خسائرنا المتواصلة على عاتق شعوبنا فلم يكن مناطاً بالشعوب الا الهتاف لقرارات الحكام او التظاهر لتأييد عبقريات الجنرالات او شجب سياسات المخالفين، اما المسؤولية الكاملة، ان تجرأنا على القول، فهي من نصيب عدد من زعمائنا الذين استلموا زمام القضية الفلسطينية وخلطوا بينها وبين مصالحهم الزعائمية، ولا اظن احداً ينكر ان شعوب العرب سارت على الدوام خلاف حاكم لا تعلم ما يفعل ولاتدري شيئاً عما يريد، لدرجة ان تظاهرت تأييد الزعماء هُزموا وصفَّقت لآخرين لم يخوضوا سوى معارك الكلام. على ذلك فإن مسؤولية استمرار عرض المأساة بلا تعديل لا يمكن ان تقع إلا على اكتاف الذين لا يزالون يجلسون في مقاعد التصدي والصمود ويتصرفون بأسلوب الذين لم يقرروا ما يريدون ولم يريدوا ما يقررون نفسه. ولأن الحديث عن تاريخ المأساة لا يسعف في محاولة انهائها، فإن العناية بما نفعله اليوم تصبح اجدى وافضل، ولا بد لمن يتفحص الواقع العربي الراهن من ان يجد اننا نضيع الوقت والجهد سعياً وراء سلام لا يقدر على القبول به حكام زعماء ولا يريده رغم التظاهر حكام آخرون. فاليوم ورغم ما نلقيه فوق الحقائق من اوهام تبدو اسرائيل معرضة عن التنازل عن راي ارض للفلسطينيين تنازلاً فعلياً. ولعله من الواضح لأي متابع ان الدولة العبرية لا تقنع بسلام لها مع الحكومات العربية المجاورة وانها لا ترى في معاهدات السلام المكتوبة مع اي كان، سوى اوراق قابلة للتمزيق، وان ما يمكن تسميته بسلامها العسكري، لا يتحقق الا بامتلاكها قوة ردع هائلة. ولأن اسرائيل تملك القوة، فإن معنى السلام الذي تسعى اليه هو القبول بها عند الشعوب العربية واعتياد الفلسطيني والعربي على التعامل معها جارة شرق اوسطية. واذ تعلم اسرائيل ان ذلك السلام لا يمكن ان يتحقق في زمن قصير وان لا بد للفلسطينيين والعرب من السعي الى انجازه في ما بينهم بالكف عن التهديد بالكلام والشروع في إعداد اجيال فلسطينية ترى في اليهود جيراناً أصحاب حق لا مغتصبين. إن السلام الذي تريده اسرائيل هو سلام لا يقدر على انجازه عرب مجاورون، ويعجز الفلسطينيون بالذات عن تقديمه اليها الا في حال إقدامها على المغامرة برد كل الارض واعادة اللاجئين واشياء اخرى وانتظارها مرور زمن قد تقدر فيه سلطة فلسطينية على احتواء مواطنيها وقيادتهم نحو ذلك السلام. ولعل هذا هو ما اوقع الامور في - مأزق السلام من اجل الامن ام الامن من اجل السلام - ولان الخروج من هذا المأزق لا يتم الا باكتشاف سلم يتحرك في اتجاهين متعارضين ويوصل الى النهاية نفسها. لقد تعامل بعضنا مع نيات اسرائيلية تفترضها ولا نعرفها، ومن الخير لنا ان نتعامل مع سياسات اسرائيل لا مع نياتها التي نخمنها. وسياسات اسرائيل الواضحة "ليكوداً" او "عملاً" هي الاحتفاظ بما تحتله من ارض فلسطين والتنازل فقط عن اجزاء تتزايد كلما شاهدت استقرار وتعميق القبول بها عند الفسلطينيين ولا تبدو لدى اليهود خطة مسبقة بالقدر الذي يصل اليه تنازلها وانما الامر متروك للزمن والظروف. كل هذا علماً بأن الدولة العبرية ليست معرضة لضغوط القوة في زمن منظور. اذاً، ألا يجدر بالعرب والفلسطينيين عندما يعلمون ان اسرائيل لن تعطيهم ما قرروا القبول به ان يتخذوا احد موقفين: اما تقديم المزيد بتقليص حجم مطالبهم وتوسيع دائرة الضمانات، واما الكفّ عن التفاوض وترك الامور على ما هي عليه الى ان يقضي الله فيها وفيهم ما يشاء؟. ان على المرء اما ان لا يفرّط في ما يراه من حقوقه الاساسية حتى ولو غلب على امره، واما ان يتنازل عن بعض حقوقه مقابل الحصول على البعض الآخر، علماً بأن عملية الاخذ والعطاء محكومة بموازين القوة العسكرية والسياسية، فضلاً عن عوامل اخرى ظاهرة وخفية. لكن سلوك السياسة العبرية ظل على الدوام ولا يزال سلوكاً مشتتاً لا يتسم بالمسؤولية. فالسلطات العبرية التي تصدت لقضية فلسطين وهي تلوّح بالحرب وتدفع بنفسها اليها، لم تفكر جدياً في إعداد اسباب القوة التي هي مشاركة الشعوب في القرار جنباً الى جنب مع تكديس السلاح. حقاً لم يبذل منذ النكبة اي جهد جاد لإعداد الامة لأي حرب سوى الاستعراض المسرحي للسلاح وتفجير الخطب والتصريحات. وحتى في مجال العلاقات الدولية لم يتم البحث عن صلات جدية بدول ذات فعالية وفيما كانت اصواتنا ترتفع بالهتاف بحياة بعض القادة العظام وسقوط اسرائيل المزعومة، وفيما كانت الانقلابات عندنا تتوالى والجنرالات يجهزون على إحساس المواطن بإنسانيته، كان اليهود يوطدون نظاماً ديموقراطياً للحكم يقنع المواطن بأنه يموت من اجل شيء يخصه ويرسّخون اقدام مؤسساتهم التعليمية والعلمية ويربطون خيوط نفوذهم بمراكز مفاتيح السياسة في الشرق وفي الغرب. لقد ظهر بعد إهدا كثير من الأرواح والأموال وكبت للأصوات لكي لا تعلو على صوت المعركة ان أحداً لم يكن يفكر في أية معركة وان الأمر كله تهويش للعالم وتخدير للمواطنين. واليوم وقد أعلنا أن استراتيجيتنا هي السلام مع اسرائيل، أترانا نعني ما نقول؟! نحن اختلفنا زمن إعلاننا للقوة سبيلاً لاسترجاع حقوقنا، ونختلف الآن حول ما نعلن من سلام. فالعالم واليهود يدركون أن بعضاً منا يرعى السلام جملةً، وبعضاً يريده مجرد مرحلة. والامر ليس خلافاً بيننا في الرأي بل إنه معركة بين المختلفين الذين يفسد بعضهم جهود بعض، كل هذا فيما يعلن الأذكياء أننا نتقاسم الأدوار إزاء دولة اليهود. إننا نبدو، كما كنا منذ خمسين عاما، مختلفين على السلام وعاجزين عن الحرب. وفيما يفاوض بعض يسعى آخرون الى إفشال التفاوض، وما يزال فينا من يبغي سلاماً مع اسرائيل مع احتفاظ بالحق في اعلان الانتصار، وما زلنا منصرفين عن امتلاك أسباب القوة فيما نضع مواطنينا في قبضة بعض الطغاة وما زلنا نمتهن حقوق الانسان، كذلك ما زالت تصرفاتنا تعلن عن ظننا بأن اسرائيل ستلفظ ما ابتلعته من أرضنا وتقبل بكل شروطنا للسلام بتأثير من مجتمع دولي لا نلعب أي دور في تشكيل سياساته. كل هذا وفينا من يفقده السلام فرصة الخطابة وفينا من يحرمه السلام من ذريعة الهجوم على الآخرين وبيننا ايضا من يمثل عربٌ آخرون خطراً على وجوده أضعاف ما يمكن أن تمثله اسرائيل. * كاتب، رئىس وزراء ليبي سابق.