حرب الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين، وإن تذرعت ب"ضرب الإرهاب"، هي علامة تحول في الدولة العبرية، باتجاه نقاء المجتمع أو غالبية يهودية مضمونة الى الأبد. إنها رغبة اكثرية تدعم نهج آرييل شارون وترى فيه بطل حرب الاستقلال الثانية، بحسب تعبير إسرائيلي يذكّر بالحرب الأولى التي انتهت بإعلان الدولة عام 1948. ولا يعتقد اي عاقل ان الجيش الإسرائيلي سينجح في مسعاه، لأن الوطنية الفلسطينية اليوم اكثر وضوحاً وتميزاً منها في العام 1948، بل هي الأكثر رسوخاً في كيانات الشرق الأوسط كلها، فأن تكون فلسطينياً امر ملموس يدركه الآخرون اكثر مما يدركون معنى ان تكون إسرائيلياً. ووصلت حقيقة الوطنية الفلسطينية هذه الى العالم كله، ربما بسبب مقاومتها الاحتلال الإسرائيلي الذي، إذ يحظى بإعلام واسع الانتشار، ينقل صورة عدوه الفلسطيني فيثير انتباه المتلقين على رغم تشويهه الصورة. وإذا لم ينجح الإسرائيليون في حرب استقلالهم الثانية، ولن ينجحوا، فإن السياسات في الشرق الأوسط ستمر في مرحلة انتقالية قد تمتد سنوات، حين السلطة الفلسطينية برأس قوي وجسم هزيل والحكم الإسرائيلي برأس ضعيف وجسم قوي، مرحلة من الفراغ والميوعة والضياع، لا تبشر لغة النقاشات السياسية خلالها بأمل في ان يُملأ الفراغ الموضوعي بخيال سياسي يناقش الدفع نحو السلام، على رغم هول الجريمة ووعيد الثأر. ويبدو ان حقل الذرائع يضيق امام اسرائيل الشارونية، إذ لا تستطيع المضي في غزو وتطهير عرقيين في حين يتجه سكان كوكبنا، وإن بتردد وأسئلة وقلق، الى عولمة تقوم على الوحدة والتنوع، ويؤول الاجتماع الإنساني شيئاً فشيئاً الى تعدد الثقافات وتعايشها بالاعتراف المتبادل. ويذهب سيئو الظن بإسرائيل سياسة شارون تزيدهم عدداً في المنطقة العربية كما في غير بلد وقارة الى ان المزاج العنصري والديني الذي يشكل عصبيتها الأساسية يتسبب في عدوى اقليمية وعالمية تشكل خطراً متعاظماً. فهي، إذ تعتمد العصبية الدينية تستنهض مثيل العصبية هذه لدى الفلسطينيين والعرب المجاورين على الأقل، ولن تستطيع الحكومة الإسرائيلية، على رغم تحالفها مع سلطة الولاياتالمتحدة، ان تقنع هذه الأخيرة بالربط النهائي بين الشعب الفلسطيني والإرهاب، كما لم تستطع من قبل دوائر اخرى هندية إقناع واشنطن بأن الإسلام الآسيوي هو الإرهاب، لا تنظيم القاعدة ومسانديه من جماعات طالبات السذج. والحال انك في هذا العالم الصغير لا تستطيع ان تكون متعصباً وحدك وتطلب من الآخرين التزام التسامح وتحاسبهم إذا حادوا قليلاً، فالتعصب والعنصرية، وما شابه من حالات انغلاق وعداء للآخر، إنما هي امراض معدية، ولن يطول الوقت حتى يعرف مناصرو اسرائيل في العالم كم ان اليمين الإسرائيلي المتزمت اضرّ بهم، فالتظاهرات الأخيرة في اوروبا وآسيا وأميركا الوسطى والجنوبية لم تقتصر على جاليات عربية وإسلامية ولم يداخلها فقط انصار لحقوق الإنسان ويهود رافضون ويساريون سابقون، ففي هذه التظاهرات ايضاً افراد غير قليلين تداعبهم مشاعر العداء للسامية. ان ما يسود العقلية الحاكمة في اسرائيل هو استعادة لأجواء أوروبا أربعينات القرن العشرين، حين كانت النازية والفاشية اشبه بعمليتي انتحار للنهضة الأوروبية التي أرست من مدن تحيط بها المصانع مجتمعات ديموقراطية متسامحة. وحكام إسرائيل يفتخرون باستمرار بأنهم أحفاد الأسلاف العلماء والمفكرين اليهود الذين شاركوا بفاعلية في انطلاق نهضة الحداثة وخطواتها اللاحقة، لكن الأحفاد بمزاجهم المتخلف المتجمد في اربعينات القرن الماضي يدفعون اعداءهم وأصدقاءهم ايضاً الى حالات لتدمير الحداثة، فالعدوّان يتشابهان مثلما يتشابه الصديقان. والسلام الذي يزداد اليوم صعوبة، تبدو المبادرة الى استعادة اجوائه مسؤولية الإسرائيليين والإدارة الأميركية قبل ان تكون مسؤولية الضحايا. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة".