شهدت الآونة الأخيرة ظاهرة فريدة، في قيام عدد متزايد من أغنياء الرأسمالية، الذين راكموا ثرواتهم من أعمال ناجحة، بتوزيع جل ثروتهم على فقراء العالم. فبعد أيام من إعلان صاحب مايكروسوفت، البليونير بيل غيتس، عزمه التخلي عن مهامه في عملاق البرمجيات في العالم بعد نحو سنة للتفرغ تماماً للأعمال الخيرية، قرر ثاني أغنى رجل في العالم، وارن بافيت التبرع بمعظم ثروته لمؤسسة غيتس الخيرية لتصبح أكبر مؤسسة خيرية في العالم. وتدير مؤسسة بيل وميليندا غيتس بالفعل أصولاً بنحو 30 بليون دولار، وتنفق نحو بليون ونصف البليون دولار سنوياً على تقديم خدمات صحية وتعليمية لملايين الفقراء في الدول النامية. وكان قرار بيل غيتس تخصيص جل ثروته للأعمال الخيرية، ثم قراره التفرغ لذلك، أثار جدلاً في الأسواق والأوساط الاقتصادية في العالم وطرح أسئلة وتعليقات أوسع نطاقاً مما صاحب شائعة اعتناق بيل غيتس الإسلام قبل فترة. ثم جاء قرار بافيت بتخصيص كل ثروته للأعمال الخيرية، معظمها لمؤسسة غيتس ليضيف لتلك الأسئلة حول تحول كبار الرأسماليين للعمل الخيري، وتوزيع ثرواتهم الهائلة بمعرفتهم وهم على قيد الحياة. ومع أن الرجلين الأغنى في العالم ليسا الأولين في هذا التوجه، إلا أن حجم ثرواتهما جعل من الأمر قضية اقتصادية مثيرة. فأحدث من سبقهما كان ساندي ويل الذي تقاعد من رئاسة مجموعة سيتي غروب المصرفية ليعلن انه خصص ثروته 1.4 بليون دولار لمساعدة الفقراء، وتفرغ لأعمال الخير آخذاً بنصح زوجته له بأن"ليس للكفن جيوب". المثير أيضاً أن هذه التحولات الرأسمالية نحو عمل الخير تأتي في وقت تتضاعف أرباح الأعمال في العالم وتتراكم الثروة اكثر لدى الأغنياء، فيما يزداد الفقراء حرماناً وفقراً. فبحسب آخر إحصاء لمؤسسة كابجيميني الاستشارية ومصرف ميريل لينش الاستثماري، وصل عدد من يملكون ثروة تزيد على 30 مليون دولار إلى 85 ألف شخص السنة الماضية، بزيادة 10 في المئة عن السنة التي سبقتها. كما زادت الثروة الإجمالية لأغنياء العالم 8.7 مليون شخص تزيد ثروة الواحد منهم على مليون دولار السنة الماضية بنسبة 8.5 في المئة لتصل إلى 33 تريليون دولار. يشار هنا الى أن بعض الأغنياء يفكرون عادة في عمل الخير في أواخر حياتهم، وبعد مراكمتهم الثروات الهائلة. وقد يطمح بعضهم في تخليد اسمه منقوشاً على أحد عنابر مستشفى ما، تبرع له بمبلغ معين أو اسم كرسي في جامعة، إلى ما ذلك من أعمال. وربما يلجأ بعض أصحاب الثروات الشخصية في المجتمعات الرأسمالية إلى قرار مغامر، كقراراتهم في مجال الأعمال التي جلبت لهم أرباحاً طائلة، بتوزيع قدر كبير من ثرواتهم على الهيئات الخيرية لحرمان جابي الضرائب من تحصيل نصيب كبير منها، وذلك على طريقة الحرية الفردية في إعادة توزيع الثروة بشكل عادل بدلاً من ترك الأمر للدولة وجهازها الضريبي. لكن ما نشهده الآن يتجاوز كل ذلك إلى شبه توجه جديد، ربما يكون خلفه بالأساس رغبة هؤلاء البليونيرات في حرمان ورثتهم من تركات هائلة، كي لا يفقدوا روح المغامرة والعمل والنجاح لتكوين ثرواتهم الذاتية إذا وجدوها جاهزة في الميراث. وتكفي إعادة كتابة الوصايا لتحقيق ذلك، لكن ما يحدث هو توجه تلك العقول الاستثمارية المميزة إلى عالم الأعمال الخيرية بدلاً من الاستمرار في أعمال السوق. وكأنما يوجدون بذلك نشاطاً استثمارياً جديداً هو"قطاع الأعمال الخيرية الرأسمالية". فكل الدلائل تشير إلى أن مؤسسة غيتس الخيرية، بعدما أصبحت تدير نحو 60 بليون دولار، لن تقتصر في نشاطها على تقديم الخدمات الصحية والتعليمية للمحرومين في أفريقيا وآسيا وغيرها، بل ستدخل في نشاط دعم التنمية بأموال خيرية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن بيل غيتس لا يزال في قمة عطائه الاستثماري، وعمره 50 سنة، يمكن تصور بداية انطلاق ذلك القطاع العالمي الجديد، الذي سيصبح له خبراؤه من مصرفيين ومحاسبين ومصممي برامج معونة ورعاية وتنمية، إلى آخر تخصصات قطاعات الاستثمار كافة. لا يمكن للمرء إلا أن يسعد بهذا التوجه، الذي لا شك سيعين على تحسين أحوال ملايين الفقراء حول العالم هناك اكثر من خمس سكان العالم ما يزيد على بليون من البشر يعيشون في فقر مدقع، وليس مطلوباً الاستسهال بالاستنكار، مندراً بأغنية زياد الرحباني"شو ها الأيام اللي وصلنالا، قال انه غني عم يعطي فقير"، ولكن التفكير في فوائد ذلك التوجه وتأثيره على الاستقطاب الحاد في تراكم الثروة في العالم، في وقت تتزايد أرباح الأعمال بنسب كبيرة ولا تعود الفائدة بالقدر نفسه على العاملين الذين يسهمون في نجاح تلك الأعمال ونموها، ويحافظون على نمو الاقتصادات الرأسمالية بإنفاق دخولهم في قطاعاتها المختلفة. * صحافي اقتصادي