هلك حوالى ستة ملايين يهودي في المحرقة النازية، غير ان الضحايا في عمليات القتل المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ عقود قد لا يزيدون على ضحايا يوم واحد في اوشفيتز او تربلنكا، ومع ذلك فهناك أوجه شبه لا تخفى بين ما تعرض له اليهود على ايدي النازيين، وبين ما يمارس المتحدرون من المحرقة ضد الفلسطينيين. الهجوم الإسرائيلي الأخير يذكرني بما قرأت عن غيتو وارسو، او ذلك الحي اليهودي الفقير في عاصمة بولندا الذي استهدفه النازيون بكل عنصريتهم وإجرامهم. وكان اليهود في الغيتو تعرضوا بعد احتلال بولندا سنة 1939 لكل أنواع التجويع والترحيل والقتل العشوائي، فكان ان ثار بعضهم في 19 نيسان ابريل 1943 وأطلقوا النار ورموا قنابل يدوية على الجنود النازيين، ورد هؤلاء بقصف البيوت وقتل اليهود أو اعتقالهم، وانتهت المقاومة فعلياً في 23 من الشهر نفسه، وانتهت الانتفاضة كلها في 16 ايار مايو التالي بعد قتل حوالى سبعة آلاف يهودي وإحراق ستة آلاف آخرين أو موتهم بالغاز. وكان الغيتو في الأصل يضم 370 ألف يهودي، غير ان من بقوا منهم في نهاية الانتفاضة كانوا حوالى 50 ألفاً رحلوا في غالبيتهم الى معسكر تربلنكا حيث كانت نهايتهم. ومن انتفاضة الى انتفاضة، فالمقاومون الفلسطينيون نفذوا عملية عسكرية ضد عسكر، والجندي من عمله ان يَقْتل او يُقتل, ورد الإسرائيليون كما رد النازيون قبلهم بمهاجمة قطاع غزة كله، ودمروا الجسور ومحطة الكهرباء وعطلوا امدادات الماء في عقاب جماعي على الطريقة النازية نفسها. وقطاع غزة كله معسكر اعتقال نازي، كما كان غيتو وارسو بعد احتلال بولندا. الأرقام مختلفة، ولكن كل تفصيل آخر يتشابه او يتماثل، مع تقديري ان حكومة الفوهرر اولمرت لن ترسل اهالي غزة الى افران الغاز، فأسعار النفط مرتفعة، ثم ان التلفزيون الذي لم يكن مشكلة لهتلر، يفضح القتلة من محمد الدرة الى هدى غالية، وإلى أطفال غزة ونسائها الآن. ايضاً لا أعتقد ان الحكومة الإسرائيلية ستفرض على الفلسطينيين اشارة خاصة تظهر ان الواحد منهم عربي أو مسلم، وليس من النوع اليهودي الممتاز. ولكن اذا رأت حكومة أولمرت ان تفرض على الفلسطينيين ما يعادل اشارة نجمة داود بلون أصفر وكلمة"يهودي"في الوسط، فإنني أقترح هلالاً يحيطه الأخضر، وكلمة"عربي"أو"مسلم"في وسطه. وكما كان يفرض على اليهود في أوروبا ان يضعوا الإشارات التي تدل عليهم، فقد تفرض حكومة أولمرت على الفلسطينيين صنع إشاراتهم، وتكون اصابت عصفورين بحجر واحد: التمييز الإثني، والمساعدة على حل مشكلة البطالة، وهي أسوأ بين الفلسطينيين في القطاع. أعرف ان اليهود يرفضون ان تُقارن أي مجزرة او إبادة جنس بالمحرقة النازية، من كمبوديا وما فعل نظام بول بوت الى رواندا وما بينهما. وأعرف ان غالبية اليهود في العالم أبعد ما تكون عن ممارسات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، فالغالبية وسطية ليبرالية معتدلة، ومع ذلك فأوجه الشبه لا يمكن إنكارها بسهولة. هل نعيش لنرى محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين على طريقة محاكمات نورمبرغ لزعماء النازية؟ قبل الرد على السؤال اسجل هامشاً تاريخياً. فوزير الخزانة الأميركي في حينه هنري مورغنثاو اقترح خطة لإزالة مظاهر النازية من ألمانيا الشبه هنا مع إزالة مظاهر البعث في العراق عرفت باسمه، وشملت الترحيل والعمل بالسخرة والقمع الاقتصادي، ووافق تشرشل وروزفلت على الخطة، وحاولا دفعها في مؤتمر كويبك، في ايلول سبتمبر 1944، غير ان ستالين عارض وكذلك الرأي العام الأميركي، وفي النهاية وافق ترومان الذي خلف روزفلت سنة 1945 على خطة وزير الحرب هنري ستمسون التي اصبحت اساس"محاكمة مجرمي الحرب الأوروبيين". ربما طلع وزير مالية اسرائيل ابراهام هيرشزون او وزير الداخلية روني بار اون او وزير الداخلية افي ديختر بخطة مماثلة لمشروع مورغنثاو، من ترحيل وعمل بالسخرة وقمع اقتصادي، خصوصاً ان الترحيل والقمع يمارسان الآن، ولا يمنع العمل بالسخرة سوى الخوف من الإرهاب. لا أعتقد انني سأرى محاكمة لمجرمي الحرب الإسرائيليين على غرار محاكمات نورمبرغ، فالمنتصر يقرر من هو الإرهابي، ولو ان هتلر انتصر لكان حكام اميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي في قفص الاتهام لا مارتن بورمان وهيرمان غورنغ وألفرد بودل وأرنست كالتنرونر ويواكيم فون ريبنتروب وغيرهم. وطالما ان القرار بيد اسرائيل، عبر الولاياتالمتحدة طالما ان الذَنَب يهز الكلب، فإن ايهود اولمرت وشاؤول موفاز ودان حالوتز بمنأى من العقاب الذي يستحقون، مع ان الجرائم واحدة، وإن اختلفت الأرقام. هل يعقل ان المتحدرين من ضحايا الهولوكوست، أو الناجين منه، يمارسون ما تعرض له الآباء والأجداد؟ هناك تفسيرات نفسية، إلا انني لا أدعي فهمها، ولن أحاول بالتالي أن أتفلسف على القراء. غير انني أفهم ان مقارنتي هذه ستضايق يهوداً كثراً، وأعترف بأنها مقصودة لعل المجرمين يفيقون على انفسهم ويدركون ما يفعلون. ولا أقول للغالبية اليهودية المعتدلة التي تريد السلام سوى انها بحاجة الى فرض رأيها حتى لا تصبغ بجرائم الأقلية المتطرفة.