يجمع النقاد والكتّاب على ان العلاقة الشائكة بين الثقافة وكرة القدم، استمرت عهوداً طويلة، إذ لم تشهد معظم سنوات القرن العشرين الذي تطورت فيه الكرة تطوراً هائلاً، إلا كتابات أدبية قليلة تكون الكرة محورها الأساسي. وان شهدت هذه السنوات زيادة كبيرة في عدد المجلات والجرائد الرياضية وظهور كتب لتعليم فنون الكرة والتمارين عليها، إلا أن ثمة مفكرين يقولون بصعوبة الفصل بين عنصر اللعب وعنصر الجد في الثقافة، لأن النشاط الفكري في أي عصر من العصور، ينطوي على سمة من اللعب الجاد. وإذا تأملنا كتابات أهم المبدعين الذين كتبوا عن كرة القدم، نلاحظ أن الروسي يفغيني الكسندروفيتش يفتوشينكو المولود عام 1933، هو الأشهر في ذلك. هذا الشاعر الذي كان يحب فريق كرة القدم لمدينته الصغيرة في سيبيريا"سيما"، كاد ان يصير نجماً رياضياً في كرة القدم كحارس مرمى، قبل أن يهجرها وهو في الخامسة عشرة. كتب يفتوشينكو سيرته وترجمها الشاعر المغربي إدريس الملياني الى العربية، ونشرت في عمانالأردن تحت عنوان"العمق الرمادي". يقول الملياني في مقدمة السيرة ان يفتوشينكو أحيا في ذاكرة الناس صورة سلفه ماياكوفسكي بقامته المديدة والعملاقة ونظرته الحادة، وقدرته الفنية المذهلة على تحدي الذوق العام المتخم بالبالي من التقاليد. أما يفتوشينكو فيقول عن نفسه:"لم تكن أمي تريد بأي ثمن أن أصبح شاعراً، ليس عن قلة ذوق وعدم ميل الى الشعر، بل لأنها كانت تعرف مصير الشعراء الروس المفجع وكانت تتوسل إلي باستمرار أن أهتم بشيء جدي لكن الجدي بالنسبة إلي كان هو الشعر بالذات". وعن أول قصيدة نشرت له يقول يفتوشينكو انه عندما قرر أن يأخذ بعض قصائده الى الجريدة التي يصدرها اتحاد الرياضة، كانت هي الجريدة الوحيدة التي لم يجرب أن يرسل إليها قصائده التي كانت تلقى في سلة المهملات. ذهب بنفسه ذات يوم الى مبنى الجريدة، وهناك طلب المسؤول عن الزاوية الشعرية، وناوله القصائد، وعندما شرع المحرر في قراءتها بصوت عال، وبين الجد والهزل، قال له أمام الحضور الذين تحلقوا حوله:"سوف تصبح شاعراً"! لكن صديقاً للمحرر علّق بشيء من الاستعلاء:"قد تكون موهوباً، فلقصائدك نبرة خاصة، بيد اني لا أرى شيئاً فيك عدا الرغبة في إقناع العالم بأنك موهوب، وهذه بالطبع مهمة ليست سهلة بذاتها". لكن المحرر الشعري هوّن على يفتوشينكو، قائلاً إن كل شيء سيأتي في وقته، فالمهم الآن أن يتعلم كتابة الشعر. وبعد شيء من الصمت، قال له: غداً ستجد قصيدتك في الجريدة. يقول يفتوشينكو:"لما اطلعت أمي على عملي لم تجد ما تثني عليه غير هذه الكلمات: مسكين أنت يا ولدي. لقد ضعت الآن نهائياً". ويعقب يفتوشينكو على ذلك قائلاً:"ربما كانت على حق". كان يفتوشينكو مدمناً في مراهقته على لعب كرة القدم، في الليل يكتب الشعر وفي النهار يلعب كرة القدم في الساحات العمومية والأرض الخلاء. ويعود الى البيت بسروال ممزق وركبتين داميتين. صوت الكرة كان يبدو له أشد النغمات الموسيقية سحراً. كان دائماً يحس أن هناك شيئاً مشتركاً بين كرة القدم والشعر. تعلم ان الأهم ليس أن يتقن اللاعب الهجوم فحسب، ولكن أن يراقب، ذلك لأنه يرى أن قواعد كرة القدم أبسط من قواعد الأدب. إذا سجل اللاعب هدفاً فالدليل الحقيقي على ذلك يظهر للعيان فوراً:"الكرة في الشباك، وعلى عكس ذلك فإن على الشاعر أن ينتظر الكثير ليثبت أن كرته أصابت الهدف". والأسوأ، برأيه، أن غالب الضربات التي تمر بعيداً من المرمى كثيراً ما اعتبرت قمة الإبداع! وكلما رأى مثل هذه الاحكام الأدبية الجائرة، تأسّف على تركه كرة القدم. حارس المرمى والثقافة لا ندري لماذا استهوى حارس المرمى بعض أهل الثقافة. هل حصل ذلك بالصدفة؟ هل لأن الحارس يراقب ويتأمل أكثر من غيره؟ فصاحب رواية"الغريب"ألبير كامو كان يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم في جامعة الجزائر سنة 1930. واعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته، لأنه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقل. قال:"تعلمت أن كرة القدم لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، وقد ساعدني ذلك كثيراً في الحياة خصوصاً في المدن الكبيرة حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة". وهو يرى ان وقوفه حارساً للمرمى مهد للكثير من إبداعه. ومثلما كان نجماً كروياً بامتياز، أصبح نجماً في الكتابة. وعندما كتب الروائي الألماني بيتر هاندكه روايته عن كرة القدم اختار ان يكون بطلها حارس مرمى، وقد عنونها"قلق حارس المرمى حين ضربة الجزاء"ترجمت الى العربية عن دار الجمل، تدور الرواية حول حارس المرمى جوزيف بلوخ الذي يطرد أثناء مباراة فريقه بسبب ارتكابه خطأ عنيفاً. يمضي الحارس ليلته مع إحدى بائعات التذاكر في إحدى دور العرض، وفي صباح اليوم التالي يخنقها. هذه هي قصة هاندكه التي تحولت فيلماً تولى إخراجه الألماني فيم فندرز. اللعبة - البديل تعددت آراء المبدعين حول كرة القدم. يقول الشاعر الأميركي أرشيبالد ماكليش إن الشعر وكرة القدم لا يجتمعان. أما الشاعر محمود درويش فيقول انه يستمتع بمشاهدة كرة القدم ويعتبرها"أشرف الحروب"، وسبق ان كتب مقالاً عن اللاعب الارجنتيني الشهير دييغو مارادونا. ما قاله درويش نقرأه مفصلاً عند الروائي الأميركي بول أوستر الذي اعتبر في مقالة قصيرة عن أبرز دروس الألفية المنصرمة، وقد ترجمتها مجلة"الكرمل"ان هذه الرياضة هي"البديل عن سفك الدماء"في الحروب الكونية. واختار أوستر أمثولة كرة القدم بصفتها"معجزة"الأمم الأوروبية في ممارسة كراهية الآخر من دون الاضطرار الى تمزيق أوصاله في ساحة قتال:"البلدان اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون السروال القصير. والمفترض أن هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها. غير ان الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة". ويشير أوستر الى أن عنف هذه الرياضة لم يكن وحده سبب انزعاج الملوك القدامى، لأنهم في الواقع كانوا أيضاً يخشون من أن يؤدي الكثير من الانغماس في هذه اللعبة الى إلهاء الناس عن الوقت المخصص للتدرب على الرماية، وأن المملكة بذلك ستصبح أضعف في استعدادها العسكري لمواجهة الغزو الخارجي. أما الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو فيقول في إحدى مقالاته عن الرياضة:"على رغم ان المسألة سخيفة، فأنت ستشاهد وتقدر للفور قوة كرة القدم كظاهرة اجتماعية وذلك بأن تنظر حولك في الملعب فقط، بل وفي حياتك اليومية، ولكن كم من مناقشة تستطيع ان تسمع في يوم واحد حول مباراة في كرة القدم؟ وكم من الملصقات والشعارات لفرق كرة القدم تستطيع أن ترى؟ وكم برنامجاً رياضياً تلفزيونياً تستطيع أن تراقب لتؤسس علاقة طبيعية مع كرة القدم؟ وكم صفحة في جريدة أو مجلة تستطيع أن تقرأ فيها ما يخص كرة القدم كل يوم؟ وكم من هذه وتلك ستسعدك وكم منها ستزعجك؟". هذه الأسئلة التي طرحها ايكو أراد أن يدل عبرها الى قوة لعبة كرة القدم وتأثيرها في الناس كما يقول النقاد. هؤلاء الذين يعشقون اللعبة قد يعبِّرون عن إعجابهم سراًَ أو بهدوء، لكن المشكلة في الذين يعبرون عن إعجابهم علناً، بالصياح والصراخ تارة، وبالقفز أو الرقص طوراً، أو بممارسات أخرى قد تصل الى حد الضرب وإحراق السيارات وتحطيم زجاج المحال، والقتل أحياناً. أما كاتب الأوروغواي ادواردو غاليانو فقد صاغ معادلة كروية هي:"قل لي كيف تلعب أقل لك من أنت". فالثقافة السائدة في هذا المجتمع او ذاك تعكس نفسها على الفريق الذي يمثلها وطريقة لعبه. ربما كان كتاب غاليانو"كرة القدم في الشمس والظل"الذي ترجمه صالح علماني وهو من الكتب النادرة عن كرة القدم، يروي فيه القصة الآتية:"مع انتهاء مونديال 1994، أطلق أسم"روماريو"على جميع الأطفال الذين ولدوا في البرازيل، وعشب استاد لوس انجليس بيع مجزّأ في قطع صغيرة مثل البيتزا، بعشرين دولاراً للقطعة". كرة القدم هي أيضاً صنعة التحايل وتجارة رابحة فقدت معنى السعادة. هكذا يؤكد غاليانو، وفي المقابل يقول:"انها احتفال للعيون التي تنظر بسعادة الى الجسد الذي يلعب". ويخبرنا في كتابه أن بورخيس اختار ان يقدم محاضرة له عن الخلود في بيونس أيريس في الساعة نفسها التي كان يخوض فيها المنتخب الوطني الارجنتيني أولى مباريات المونديال، ولا يخبرنا غاليانو عن عدد الذين حضروا تلك الأمسية لواحد من أعلام الثقافة العالميين. وهذه اشارة الى أن بورخيس لم يكن يؤثر الألعاب الشعبية. الموجة الجديدة مع منتصف التسعينات من القرن الماضي حدث التحول الكبير. صار أمراً عادياً وجود كتب وروايات عن كرة القدم في المكتبات. ويبدو ان الكرة لم تقنع كثيراً باقتحامها الكتابة الأدبية فاتجهت الى مجال الدراما التلفزيونية والسينمائية. في كأس العالم 2006، يبدو الأدب جزءاً من عملية الترويج للمونديال الألماني، وقد وجّه الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا دعوات شخصية لعدد من الكتّاب العالميين، بينهم البرازيلي باولو كويلو والإيطالي أمبرتو ايكو، لحضور المونديال. ولم تتردد مجلة ألمانية في وضع عنوان لغلافها هو:"أدب الأقدام في المونديال". وشكل موضوع كرة القدم والأدب محور نشاط بعض المدن المحتضنة للبطولة العالمية كبرلين، هامبورغ، فرانكفورت، ميونخ، كولون، شتوتغارت، إذ أدخل الشعر في الإعلانات والملصقات الدعائية وفي محطات المترو ومراكز التسوق. ووصل الأمر الى قيام الشاعر الألماني غوتفريد بلون شتين بنظم قصائد شعرية يتغزل فيها بكرة القدم ويدافع عنها. وقرأ غونتر غراس مقاطع من أعماله في ستاد ميلرنتر. أما الروائي الاسباني خافير مارياس لم يترجم الى العربية الذي يتابع المونديال في ألمانيا، ويكتب عن كرة القدم في مجلة إسبانية، فيعتبر أن لاعبي الكرة يثيرون الرثاء ولا يمكنهم أبداً أن ينجزوا المتوقع وهم في ذروة شعورهم الرياضي. ويضيف مارياس:"الشيء الأكيد ان كرة القدم ليست في حاجة الى كتاب لأن شعبيتها تكفي، وإذا لم يكتب عنها أحد فربما ستظل تحظى بشعبيتها الضخمة". تتعدد الأصوات التي تتحدث عن سحر الكرة في الزمن الراهن، وكان الكاتب البرازيلي خورخي أمادو يقول:"أغبياء أولئك الذين لا يحبون كرة القدم"، والراجح ان كرة القدم ستكون محور الكثير من الروايات والكتب الشعرية في السنوات المقبلة، لأن سحرها بات يعادل سحر الأدب.