«إن سيرة الشاعر الذاتية هي قصائده، أما ماعدا ذلك فليس سوى تعليق، ومع ذلك فمن واجب الشاعر أن يقدم لقرائه مشاعره وأعماله وأفكاره على راحة اليد. وعليه كي يحظى بإمكانية التعبير عن حقيقة الآخرين أن يدفع الثمن: بالكشف عن حقيقته من دون رحمة أو شفقة». هكذا ينظر الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو إلى حقيقة «السيرة الذاتية» باعتبارها ليست مجرد بوحٍ أو مكاشفة، وحتى يتمكن الشاعر من التعبير عن مشاعر الآخرين، عليه أن يعرف كيف يعبر عن ذاته في سيرة ذاتية صريحة. إنه الاعتراف الكامل بالضعف الإنساني من دون تجميل أو انتقائية يقدمها لنا يفتوشينكو في كتاب: «العمق الرمادي» الذي ترجمه إدريس الملياني وصدر أخيراً عن دار «رؤية» للنشر في القاهرة. ومنذ جان جاك روسو واعترافاته، تعودت الثقافة الغربية أن تقدم لنا سيراً ذاتية لا يتورع المبدع فيها عن كشف ضعفه الإنساني، وحرص يفتوشينكو على أن تكون سيرته مثالاً للجرأة: «لا يحق للشاعر أن يخادع الناس، ومهما حاول أن يزاوج في شخصيته بين الإنسان الحقيقي من جهة، والإنسان الذي يُعبر من جهة ثانية، فلا بد أن ينتهي إلى العقم، عندما تحول رامبو إلى تاجر عبيد، كان يتصرف على نحو يتناقض مع مُثله الشعرية، فانقطع عن الكتابة، وكان ذلك هو الحل الشريف للأسف، ثمة شعراء آخرون يصر بعضهم على الكتابة، حتى عندما لا تعود حياتهم تطابق شعرهم، فينتقم الشعر منهم بالتخلي عنهم. الشعر امرأة حقود، لا تغفر الكذب، ولا ترضى حتى بنصف الحقيقة». الإطار الزمني لسيرة يفتوشينكو، منذ لحظة الميلاد في تموز (يوليو) 1933، يحيا فيها طفولة قاسية عايش خلالها الهجوم الألماني (1941) والحرب الثانية. قدم سيرته في محطات رئيسة، أبرزها علاقته بالشاعر بوريس باسترناك، ذلك الشاعر المتميز الذي: «لم يكن يؤثر في الناس ككائن بشري، بل كعطر وضياء وحفيف». ويفتوشينكو «شاعر كبير وذو جرأة على الجهر بما كان مسكوتاً عنه في مجتمعه الاشتراكي». «لقد ارتكبنا الكثير من الأخطاء. لكننا كنا البلد الأول على طريق تحقيق الاشتراكية، وربما ارتكبناها حتى لا تضطر البلدان الأخرى التي ستنهج الطريق نفسه إلى ارتكابها من جديد». وتأخرت معرفة القارئ العربي به، ومشروعه الإبداعي في حاجة إلى تأمل عميق. وقد ترجمت سيرته الذاتية إلى لغات عدة عبر العالم: «لقد وافقت على كتابة هذه التجربة من سيرتي الذاتية، لأن القصائد تترجم في شكل رديء». كما أن الشعر عنده لنقل أنفاس الآخرين من دون أن تنتفي ذاتيته الخاصة، لأنه كما قال: «مقتنع بأنني يوم أفقد هذه الأنا، سأفقد في الآن ذاته قدرتي على الكتابة، ويبقى السؤال: لكن من أكون أنا؟». في مقدمة «العمق الرمادي»، يقول المترجم: «كتب هذه السيرة وتجربته الشعرية برقة الشاعر ودقة الناقد، بأناقة أسلوب القاص والروائي ورشاقة توضيب الفنان السينمائي، بحماسة المناضل الثوري وفراسة المواطن الشعبي». يعبر عن علاقته بالحزب الشيوعي السوفياتي بجمل بسيطة وكاشفة، ويعبر كذلك عن رؤيته للعالم وللكتابة، وموقفه السياسي: «كتبتُ مقالات ولم أكتب تقارير وشاية. لقد دافعت عن الموهوبين، ذلك الزمان الغريب حين كان الشرف البسيط يُسمى جرأة». يكشف الشاعر في سيرته الذاتية اهتمام الغرب بعامة، والولايات المتحدة بخاصة، وأنهم اختصروه في موقف فكري واحد وغير محايد، موقف رأوه أنه ضد الاتحاد السوفياتي السابق. إن هذا الشاعر المتميز، بحسب المترجم، الثورة كانت دين عائلته، نصف مثقف لأن أباه علمه قراءة الكتب، ونصف فلاح لأن أمه علمته حب الأرض والعمل. أحب الشعر وكرة القدم ونشر أولى قصائده في جريدة رياضية لكن أمه مزقت أشعاره لأن «الشاعر شخص متقلب قلق ومتألم دائماً، ولأن مصير الشعراء الروس كان مفجعاً تقريباً». الأم تستحضر نهايات بوشكين وليرمونتوف وبلوك وماياكوفسكي. يتحدث يفتوشينكو عن مرحلة صعود الاتحاد السوفياتي، ومن ثم انهياره، ويتحدث تحديداً عن صعود ستالين وأفوله، وكأننا نقرأ شهادة عن تلك المرحلة بعنفوانها وأوهامها وتلاشيها، ولذلك اختار أن يقيم على مسافة مع ستالين، لم يؤمن به، ولم يكتب شيئاً بأسلوب ذلك العهد، بل فضل أن يلوذ بقصائد العشق، لكن حين مات ستالين (1953) انفجر ما سماه «دموع الخوف على المستقبل». إنه يعي أن الاختلاف مع الفكر لا يتعارض مطلقاً مع حب الوطن والخوف عليه: «الناس تعودوا على أن يفكر ستالين نيابة عنهم، ومع الموت أدركوا أنهم صاروا يتامى، وأن لا أحد يفكر من أجلهم»، ربما يعود هذا الإحساس إلى أن الستالينية، كما يقول يفتوشينكو، ترى الناس مجرد دواليب بسيطة في منشأة صناعية كبرى، مدربة على الانقياد إلى الأوامر الصادرة من فوق إبان المؤتمر العشرين تعرت جرائم ستالين ولذلك يقول يفتوشينكو «ربما هدرنا حياتنا هباءً»، ولذلك أيضاً آمن بذلك الربيع المناهض للستالينية. حاول المؤلف أن يكشف في سيرته الذاتية، ليس خداع العهد الستاليني الأسود فحسب، كما يرى المترجم، بل حاول أن يجيب أيضاً على كثير من أسئلة تلك المرحلة الربيعية القارسة والقاسية التي عرفت ذوبان الجليد، على عهد خروتشوف، ويجيب عن أسئلة مماثلة تمخضت عنها مرحلة الجمود الجديد، على عهد بريجنيف، وترهص في كثير من إشراقاتها بما ستتكشف عنه الأيام كذلك من أوهام «الشفافية»، و»إعادة البناء» على عهد غورباتشوف، وما سيشهده الاتحاد السوفياتي لاحقاً من انهيار شامل إلى حد القول إن يفتوشينكو تنبأ بذلك الانهيار. وفي ذلك دليل على قدرة الشعر والشاعر الرائي والبصير، المعمد بالتجربة والمهتدي ببوصلة الحكمة الشعبية الواضحة الاتجاه، على اكتشاف واستشراف المستقبل، وربما ما يدل على هذا الاستشراف عنوان ديوانيه المبكرين «مستطلعو المستقبل»، و»طريق المتحمسين». ويرى إدريس الملياني أن «هذه السيرة الذاتية المبكرة هي سيرتنا نحن إذ تجيب أيضاً على كثير من قضايانا الثقافية السياسية التي يحبل بها ماضي أيامنا الآتية ومستقبل أحلامنا الماضية».