يشير الروائي والناقد الجزائري المرموق واسيني الأعرج في مستهل روايته الجديدة "المخطوطة الشرقية" دار المدى 2003 الى أنها استمرار لليلة روايته السابقة "رمل الماية: فاجعة الليلة السابعة"، فما بعد الليلة الأولى من "ألف ليلة وليلة" لا يزال يشغل الكاتب، كما شغل سواه من قبل - هاني الراهب في روايته عن حرب 1976: "ألف ليلة وليلتان"-. وها هي مدينة نوميدا - أمدوكال تحضر من رواية الأعرج السابقة الى روايته الجديدة، وقد أتت الحرب عليها، في الألف الثالث من الزمن الميت، وزمنها الأول ولّى، ليبدأ زمن بلا عيون ولا ذاكرة، يرمح بنا خمسين سنة قدماً من الآن - زمن القراءة - كما يرمح بنا خلفاً الى أزمنة الأندلس وابن خلدون وعاصفة الصحراء وعاصفة أدهى وأمرّ، لن تبقي إلا على الأمير نوح الصغير الذي يهيئه الأميركي المنتصر ليرث الخراب، وعلى صيادين من بقايا السلالات المسحوقة التي ألجأتها الحرب الى ساحل أمادرور، أي: حضرموت، أو: حاضر ميت، كما يشرح الكاتب. الى حضرموت قدم الأمير نوح ابن عشر مع الزنجية، وبعدما صارت البلاد بلداناً، وكلٌّ يدعي أنه حاكمها، والعصابات تسيّر يومياتها. وطوال خمسين سنة من الانتظار ظل نوح الصغير يهيئ مع الزنجية سفينته، حتى شرع البحر يطلع بأوراق عبدالرحمن ذات الخط المغربي التي تغطي على ما يملأ به نوح الساحل من البيانات، فمن يكون عبدالرحمن هذا؟ تتسائل الراوية: "من تكون أيها الرجل المجنون؟ عبدالرحمن بن خلدون؟ عبدالرحمن الداخل؟ عبدالرحمن الكواكبي؟ عبدالرحمن المجدوب؟ عبدالرحمن منيف؟...". وتنقل الرواية عن الرواة ان الرجل صور في تصنيفه كل الاشتعالات التي مست البلاد، وأنه كتب عن سقوط المدن وبشّر بانهياراتها. وقد يكون للقراءة ان تتساءل عما إذا كان ذلك كله يعني أولاً وأخيراً أن عبدالرحمن الرواية هو كاتبها، وأنها هي ذلك التصنيف المتمثل لما كتب في الزمن الفائت سيدي عبدالرحمن المجدوب الرجل المفتون بالمرأة والدواة والقلم واللذة والمدنية، والذي دوّن رسالة نوح الشاعر - الحاكم المقتول - الأخيرة للأمة، وليس ذلك فقط، فالتصنيف العتيد يتمثل خماسية عبدالرحمن منيف "مدن الملح" وهو يكتب سقوط المدن الرملية وانتقالها بين ليلة وليلة من الكهرباء الى زيت شحم الإبل، ومن الناطحة الزجاجية الى الخيمة. لقد غرقت مدن النحاس، وخرجت من الحفر العادات القديمة والسكاكين وبقايا الحيوانات المنقرضة، وكتب عبدالرحمن بن خلدون العلامة المنتظرة، تصنيفه الذي ينجي الضرع والزرع، ويقال انه يكشف ما خفي من حقائق الدنيا، وستخوض الرواية في خلط الكتب بين سيرة ابن خلدون وأحد أجداده، وتنقل عنه من ابن الخطيب ما تنقل، ولا تفوتها دعوة تيمورلنك له، لينهض فيها. من لعبة التناص مع ما كتب أيّ ممن يمكن أن يكون عبدالرحمن، ينهض في "المخطوطة الشرقية" النظام السردي التراثي الذي عُرِف واسيني الأعرج بالولوع فيه، لكن ذلك سيأتي على هون في القسم الأول من الرواية "اندثار نوميدا - أمدوكال"، ثم يقيم القسم الثاني "تفاصيل الكتاب الضائع"، ليعود في القسمين الباقيين كما بدأ، فيما يتكرس "مفهوم الرواية"، ومن ذلك ما يقال لبن خلدون من أنه كتب "مقدمة كبيرة لتاريخ المخطوط الشرقي"، فيرد باسم الكتّاب: "نؤرخ فقط، ونكتب ونرمّز عند الضرورة" و"وظيفتنا أن نكتب وبعدها نتأمل مشاهد الحروف والقيامات التي تولدها الكتابة". ومن ذلك أيضاً ما تذهب اليه الرواية من أن "النص العظيم، نص الدهشة والرعشة والكبرياء، ليس إلا النص الذي ينشأ داخل العزلة والمرأة والمعصيات الكبرى والموت والحدة وبياض الورقة المهرب من أعمال الذاكرة". غير أن نهوض النظام السردي التراثي لا يستقيم في رواية "المخطوطة الشرقية" إلا بحضور كتاب الغفلة والنسيان، كتاب الحنين، كتاب الغواية الكبرى والأشواق والدم، أي "ألف ليلة وليلة"، سبب التهلكة الذي يلاحقه الملياني - الحاكم المقتول السابق ووالد الأمير نوح - وفقيهه ابن كيوان الأندلسي، حتى المحرقة التي ستأتي على "ألف ليلة وليلة" وكل التصانيف التي سرقت عقول الرعية، من طوق الحمامة وتحفة العروس وشعر أبي نواس وبطون التراث الى شعر أدونيس والروايات وكتب الحداثة والعلمانية والوجودية والاشتراكية... في هذا العالم الروائي المصطخب قام - سيقوم المستقبل، خلال خمسين سنة من حرب آتت أكلها، فاندثر النفط والغاز، وباتت البشرية تمشي على أربع، وعصر التوحش يزحف، والبلاد تدخل "حافية عارية الى عصر الانقراض الأول"، فيتمرد رئيس جهة ما أو حزب ما، ويضع على رأسه برنيطة عسكرية، حتى صار لا يُعرف من صار يحكم ماذا، كما يقول الأميركي أوسكار، عرّاب أمير المستقبل نوح الصغير" فهذا أمير كساله يشنق المدافعين عن الوطن، وهذا رئيس قبيلة قطامس يجمع حول قطّاع الطرق والمساجين القدماء، وهذه مدينة الزيت - أين هي النفطيات في رواية هاني الراهب "رسمت خطاً في الرمال"؟ - تحوط نفسها بالأسلاك الشائكة والمكهربة وبطائرات الأواكس التي يوفرها الحلفاء، وهذه "دولة تسير بعقل قبيلة، وحاكم في مخه راعي إبل، ورئيس لم يهضم ان الجمهورية ليست ملكاً خاصاً له". فليهنأ من باتوا رعاة برومل الأول ومولاي الظواهري والمخنفر وسيدي بومدين والبخيت الثاني وسواهم من حكام المستقبل. وفي هذا العالم الروائي المصطخب يقوم ما أفضى - سيفضي الى ذلك المستقبل، من حاضر وماض، فيما لا تفتأ الرواية التي تلعب لعبة الترهين والتعيين وهي تلعب لعبة التأرخة والأسطرة، وتوزع كل قصة من قصصها على أقسامها وأبوابها وفصولها، كما تشبك القصص جميعاً، ليغدو العنوان الأكبر ذلك الديكتاتور "الملياني" وذلك النظام "الجملكية" المنحوت من الجمهورية والملكية، مثلما نحت سالم حميش "الجمطانية" في روايته "فتنة الرؤوس والسلطان" من الجمهورية والسلطنة. ورواية "المخطوطة الشرقية" تنادي أيضاً رواية سالم حميش "مجنون الحكم" وهي ترسم الديكتاتور ابتداءً بهذا الذي حاول وقف الليالي المقلقة، وبخاصة الليلة السابعة بعد الألف، فطبق "الديموقراطية"، وأنجز برلماناً يشرف على الرمال والإبل وسوق الماء والملح، وكان ينوي تعيين ابن "نوح الصغير" جنرالاً، ويفكر في ابتلاع جيرانه ليؤسس امبراطوريته. انه الملياني المولع بشخصيات هتلر وغاريبالدي وبسمارك وميشيل عفلق. وسمي الملياني حيناً "ولد الخادم" نسبة الى أبيه خادم شهريار، الذي كان يضاجع سيدة الجملكية. وحين شبّ الملياني استمات في الحرب الأهلية التي أطاحت شهريار، ثم أوكل اليه نوح الشاعر شؤون النظام الداخلي للبلاد، وتأسيس القوات الدفاعية بعدما مزقتها الحرب الأهلية، بينما تولى عبدالرحمن أيّهم؟ شؤون الإدارة والديون. وفيما ألغى نوح الشاعر الجملكية، وسمى القصر الجملكي قصر الشعب، وأقام النظام الجمهوري، كان الملياني يعدّ العدة لعهده، ونوح الشاعر لا يأخذ بتحذيرات عبدالرحمن، والملياني يتنبه لقلعة العلماء والعمال، الى أن يسمّم نوحاً الشاعر، ويلبس جلده. هكذا نشبت أول حرب تنقل مباشرة على الشاشات، وملأت مدن العالم المسيرات داعية الى وقف التقتيل والظلم، وانقلب كل شيء الى نكتة رديئة، فتحولت دبابات الملياني الى لعب أطفال تحت قصف طائرات التحالف الذي تنظم فجأة لمقاومة الظلم والغطرسة. وبدأت عمليات التدمير المنظم لكل المنشآت المدنية والعسكرية، ولم ينج إلا قصر الملياني الذي باتت صواريخه مضحكة مثل محارق الأطفال، وخانه ضباطه، وانفض عنه أصدقاؤه، وهو يتطوح من الانهماك بالدسائس ومسيرات التأييد ومن مواجهات المدن بصوره، حتى تزحف الجموع على قصره وتأكله حياً، وقد أغلقت موانئ العالم في وجهه، وصدرت بحقه وثيقة توقيف دولية. عندما بدأ عهد الملياني يتزلزل راح يتوسل الأسلمة، ويشيد المآذن الأندلسية، وباتت كتائب الظلام ملتحية، وقامت كتائب الأخوات اللواتي يلاحقن السافرات، وامتلأت المكتبات الوطنية بكتب الخرافة وعلماء بيشاور وفتاوى طالبان، بدلاً من كتب طه حسين وحسين مروة وأمثالهما، وتوالت معارض الكتب الدينية بإشراف كتائب الظلام وديوان الجملكية، وسمى الملياني نفسه إماماً، وأحرق مدينة قطامس بعد المطالبة بمحاسبة القتلة، وأتى بماريوشا طالبة الاقتصاد ومرافقة سيدي عبدالرحمن المجدوب والبشير الموريسكي حتى اندثارهما، ثم زوجة عبدالرحمن الذي يعتقله الملياني أخيراً ويسقط عنه الجنسية بمرسوم جملكي خاص، قبل أن يتخلص منه. وها هي بعثة العلماء الأنثربولوجيين المحيطين بالأمير نوح الصغير، في رحلتهم به في الصحراء، يعثرون على مومياء عبدالرحمن وعلى مؤلفات من حارت الرواية في من هو منهم عبدالرحمن، وتلاقي البعثة التي يقودها أوسكار وسقراط - ويشك نوح الصغير نفسه في أنها بعثة جواسيس وعملاء الCIA - ذلك الشيخ الذي يقرأ في "المخطوط الشرقي" عن العمال والعلماء الذين لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد، والذين أنقذوا المدينة من أنياب القتلة، وسينقذونها من القرون الوسطى، فالأمل لم ينقطع على الجبهتين: جبهة الصياد الذي يوزع نسخاً من وريقات المخطوط الشرقي، وجبهة الأسطول الأميركي الرابض من أجل موقع البلاد الاستراتيجي في ظل النظام الدولي الجديد، ومن أجل الخيرات الدفينة الأخرى. مع ظهور مجنون الحكم، ينعته المعارضون بالنصاب والطاغية ابن الطاغية المرتبط بالاستخبارات الاسرائيلية والأميركية والأوروبية، وبطل المسرحية الوسخة: مسرحية القوادة وتهريب كنوز البحر وتحويل الساحل الى مزبلة للنفايات المشعة. وإذ تعلن لعبة الليزر علامة عاصفة الصحراء الجديدة، يكون ذلك المجنون - الفاطمي المنتظر - الأمير نوح الصغير قتل الزنجية بأمر سارة، وباتت له مثل لحية الربّي، ويكون فرغ من ديوان البهجة أو ديوان الخطايا، ويكون تلاشى ايقاع شعر الشاعر عيسى الجرموني في الرواية، لتنزل سفينة الديكتاتور القادم الى البحر، ومن الناس من يلتف حوله كوليّ. فأصدقاؤه يخلقون له شرعية إلهية بعدما عجزوا عن الشرعية الاجتماعية، وسيدة القلعة - سارة تعلن أنها نصف القرن المقبل من حكم نوح ولد الملياني، وقد تمركز المال بين يديها، وعشقها نوح، وقرأ على صدرها - مثل سيد المدينة الأميركية العائمة في البحر - الأوشام والخطوط العبرية. وبذا تبلغ الرواية نهايتها، لتدع القراءة فاغرة، ليس فقط من هول ما انقضى، وما هو قائم، بل من هول ما سيلي أيضاً، ومن هول الكتابة التي غامرت في كل ذلك.