لم يكن ملف السلاح النووي الايراني وحده ما دفع المستشارة الالمانية انجيلا ميركل الى زيارة روسياوالولاياتالمتحدة خلال شهر واحد، وهي الزيارة الثانية لكل من البلدين، منذ تسلمها مهماتها في الحكومة الائتلافية في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. فالعلاقات المتوازنة التي تسعى برلين الى اقامتها مع قطبين غير متكافئين من شأنها اعطاء شهادة"حسن سلوك ديبلوماسي"للمرأة التي طالما راهن المعارضون لسياستها على فشلها في أداء مهماتها كمستشارة، ليتبين حتى الآن، وفي فترة قصيرة نسبياً، تحقيقها انجازات يصح معها القول ان المستشارة الجديدة تغلبت على سلفها غيرهارد شرودر المعروف بكاريزمته وحنكته السياسية. تمكنت ميركل من أن توازن في أدائها السياسي والديبلوماسي بين سياستين شبه متناقضتين، وان تتماهى مع بعض طروحات كل منهما، مع الحفاظ على مصالح بلادها في الدرجة الاولى. ففي فترة لا تزيد على ستة شهور، استطاعت التوفيق بين الحفاظ على علاقة مميزة مع موسكو التي تساند ايران في قضية استخدام الطاقة النووية، ودفع العلاقة التي كانت متوترة مع واشنطن، المتشددة تجاه طهران، الى درجة أفضل على رغم بعض المسائل العالقة بين البلدين. وفي محصلة زيارتها الى روسيا ولقاء القمة الذي عقدته في سيبيريا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استطاعت ميركل أن تؤكد استمرار ما سمته"الشراكة المميزة"مع روسيا، من دون أن تتنازل عن حقها في انتقاد سياسة موسكو تجاه الشيشان وفي قضيتي الديموقراطية وحقوق الانسان وفي الموقف من حق ايران في امتلاك التكنولوجيا النووية، وهي المدركة جيداً أهمية العلاقة الجيو - سياسية بين البلدين، وما يترتب عليها من اتفاقات تستفيد منها ألمانيا في موضوع الطاقة وفتح اسواق الاتحاد الروسي والدول التي تدور في فلكه أمام المنتجات الالمانية. وعلى الضفة الأخرى، استطاعت ميركل، التي لقبتها بعض وسائل الاعلام ب"ثاتشر المانيا"أن ترفد العلاقة المتوترة بين برلينوواشنطن بسبب حرب العراق، بعوامل دفع وتلطيف جديدة من دون أن تعود الى حميميتها التي سادت في عهد المستشار المحافظ هيلموت كول الاتحاد المسيحي الديموقراطي. وكما فعلت في روسيا باستخدامها النقد والتأكيد على ضرورة تعزيز العلاقات في آن، اتبعت الاسلوب نفسه في واشنطن، فانتقدت سياسة الادارة الاميركية في العراق، وكانت أول مسؤولة أوروبية تدعو الى اغلاق معتقل غوانتانامو لمخالفته شروط حقوق الانسان. وأجبرت الرئيس جورج بوش على الصفح عن المانيا، وابدائه التفهم لعدم مشاركتها في مساندة الولاياتالمتحدة في غزو العراق، وهو ما عبر عنه تصريح الرئيس الأميركي الذي اتهم المانيا سابقاً بالوقوف الى جانب صدام حسين لعدم مشاركتها واشنطن في الحرب لصحيفة"بيلد أم زونتاغ"الالمانية بعيد زيارة ميركل الاخيرة للبيت الابيض، بالقول:"بدأت أدرك جيداً أن رفض الالمان لفكرة الحرب مسألة مبدئية مترسخة في عقليتهم ولها ما يبررها تاريخياً... ببساطة الألمان لن يدعموا أي حرب بصرف النظر عن انتمائه وآرائهم الحزبية. فهناك جيل من الشعب الالماني فقد كلياً كل معاني الحياة الكريمة بسبب حرب مرعبة". واذا ميركل قد نجحت في تحسين العلاقات مع واشنطن الى مستويات أفضل بعد اصابة هذه العلاقات بالتوتر في عهد الاشتراكيين الديموقراطيين، فإن هذه العلاقات لم تصل حتى الآن الى المستويات التي تطمح اليها المستشارة الالمانية، لأسباب عدة لعل أبرزها عدم اطلاق الطرف الآخر من الائتلاف الحاكم، الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي ينتمي اليه وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، العنان للمستشارة لتحقق مرادها بإلحاق السياسة الالمانية بالفلك الاميركي كلياً كما كانت تطمح دائماً، خصوصاً مع استذكار تصريحاتها المتحدية لمشاعر غالبية الالمان اثناء الحرب على العراق، والتي ساندت فيها واشنطن في حربها. غير ان التطورات التي شهدتها أوروبا في الآونة الأخيرة عقب فضيحة ما عرف ب"طائرات الأشباح"أو رحلات الطائرات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي نقلت معتقلين عبر مطارات أوروبية، ومنها المانية، اضافة الى قضية السجون السرية التي اقامتها الوكالة في بعض دول أوروبا الشرقية، الى جانب خطف"سي آي ايه"المواطن الالماني من أصل لبناني خالد المصري في ظروف غامضة، ناهيك بتصلب الموقف الاميركي في مسألة رفض منح المانيا مقعداً دائماً في مجلس الأمن، كل هذه المعطيات من شأنها أن تعيق تقدم العلاقات الى المستوى الذي كان يحلم به المحافظون. ولا بد من الاشارة الى لجنة برلمانية ألمانية تحقق هذه الايام في صحة المعلومات حول تورط عملاء ألمان تابعين للاستخبارات الألمانية BND، بنشاط أمني مع"سي آي ايه"في بغداد. اذ استُدْعي مسؤولون كبار لسماع افاداتهم في القضية، على رأسهم المستشار السابق شرودر ووزير خارجيته يوشكا فيشر ووزير الخارجية الحالي شتاينماير. وستفتح هذه التحقيقات الباب على مصراعيه أمام قضايا أخرى على علاقة بسياسات واشنطن الامنية في اوروبا، مثل قضية المصري ورحلات الطائرات والسجون السرية والتدخل في استجوابات قضائية. في أي حال، يمكن القول ان المستشارة الالمانية الحائرة بين قطبين غير متكافئين، استطاعت التغلب، حتى الآن، على خصومها الذين راهنوا على فشلها المحتمل في قيادة دفة سفينة البلاد نحو تحقيق الحد المعقول من المصالح، وبأقل خسائر ممكنة، فاعتمدت بذلك سياسة متوازنة مواصلة ما بدأه سلفها شرودر من ترسيخ دعائم حضور المانيا على الخريطة السياسية العالمية، حيث لا تزال تلعب دوراً رائداً في الملف النووي الايراني، الى جانب دول اخرى تمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن، على رغم معارضة بعض اقطاب"المحافظين الجدد"في البيت الأبيض. ولعل الشهور المقبلة تؤكد أهمية هذا الدور، في ما لو استطاعت برلين اقناع الدول الكبرى بالإبقاء على استخدام الوسائل الديبلوماسية لمنع ايران من تخصيب اليورانيوم على اراضيها، بدلاً من توجيه ضربة عسكرية من شأنها خلط الاوراق في المنطقة، وسقوط لعبة التوازن الحائرة بين قطبين، لكل منهما مصالحه وتطلعاته ومجالاته الحيوية التي قد تجد في برلين أرضاً خصبة للاستخدام السياسي الذي لا يصب الا في مصلحة أحد الطرفين. * كاتب لبناني متخصص في الشؤون الالمانية.