1 عرفت ميسون صقر شاعرة حداثية من خلال مجموعتيها الشعريتين"هكذا أسمي الاشياء"وپ"رجل مجنون لا يحبني". وقرأت عنها فنانة تشكيلية تجيد الرسم بالألوان كما تجيد الرسم بالكلمات. لكنني فوجئت بها روائية من خلال عملها الروائي البديع"ريحانه"الصادر عن دار الهلال - القاهرة كانون الثاني يناير. ترددت طويلاً قبل ان أقرأ الرواية وتساءلت في نفسي هل سيتحول الشعراء والشاعرات الى كتاب رواية؟ وهل أعطت صرخة الناقد المعروف الدكتور جابر عصفور أثرها المطلوب في تحويل المبدعين من الشعر الى الرواية عندما أعلن أننا نعيش زمن الرواية لا زمن الشعر؟! لكن ترددي في شأن"ريحانه"تلاشى ووجدت نفسي ذات مساء ربيعي من هذا العام أقرأ الرواية وأتابع التجربة بفضائها الواسع الرحب. ولا مبالغة في القول ان اهتمامي كان يزيد، بل يتضاعف كلما قطعت شوطاً في القراءة وتبدل صوت السارد، وأخذت الاحداث تنتقل من الوثائقي التاريخي الى السيرة الذاتية للشخصيات، ومنها الى المتخيل السردي الروائي بامتياز، حيث تضيء قصص الحب وتتنامى الجملة السردية وتزداد جمالاً وإشراقاً. ويغطس القلب في محيط من الذكريات عبر مشاهد شديدة المرارة وأخرى شديدة الجمال، وتلك هي الحياة بوجهيها، وكما يعبر عنها مستويان من التعبير احدهما سرد مباشر والآخر سرد شجي فريد. وابتداء نشير الى ان للرواية سارداً مجهولاً يظهر ثم يختفي تاركاً مواصلة السرد لأكثر شخصيات الرواية حضوراً وهما"ريحانه"وپ"شمس". يقدم السارد المجهول للرواية بمدخل وثائقي قصير عن إمارة الشارقة في مرحلة معينة من التاريخ الحديث ارتبط بالاحتلال البريطاني ودوره في خلق الصراعات وتأجيج الخلافات بين أفراد الأسرة الحاكمة، ليطيب له المقام ولا يجد من يخالفه الرأي أو الموقف، وإن وجد من يفعل ذلك فإن مصيره الهلاك أو النفي، كما حدث للحاكم الوطني الذي أبدى تعاطفه مع ثورة 23 يوليو في مصر ووافق على استقبال عبدالخالق حسونه أمين عام الجامعة العربية."ما زالت ريحانة تذكر حين طلب الانكليز من الحاكم ان يعتذر عن استقبال عبدالخالق حسونه، وبدلاً من أن يذعن للأمر بدأ الاعداد لاستقباله كما يليق بحاكم دولة، آنذاك سمعت الحوار الذي دار بين عم الحاكم وعمتها حين طلبت منه ان يتريث ولا يواجه الانكليز بعناد زائد، لكنه على رغم ذلك أصر على ان يفعل ما يراه من دون إذعان لهم، ومن دون ان يأبه لتحذيرات أولي الأمر الذين يعلمون مقدار ما يترتب هذا الاستفزاز، ومن دون الإصغاء الى ما تنصح به زوجته". ص11 لم يتردد الانكليز في الإطاحة بالحاكم الذي اختار منفاه في القاهرة موطن هواه القومي وحمل معه عائلته ومنها إبنته الطفلة"شمسه"وجاريته"ريحانه"وابنيها. وفي القاهرة تبدأ الوقائع الروائية التي تجمع بين الواقع والمتخيل، وتخلع الرواية ثوبها التاريخي، واذا ما عادت إليه بين حين وآخر فإنما في مقاطع وثائقية قصيرة تذكّر بأصل المأساة ولا تكسر الايهام الروائي أو تقلل من درامية المشاهد المتتابعة بحبكة فنية بارعة وبلغة لا تفتقد الشعرية وبسرد يمعن أحياناً في التحليل الاجتماعي والفلسفي. كما تستعير الرواية بعض المفردات العامية في الجوار لتحافظ بذلك على صدقية الموقف وواقعيته، وفي الأحاديث التي تدور بين"شمسه"وپ"هادف"على وجه الخصوص: "أنا بذرة عائلية في مجتمع يملك بنيته الثقافية الحادة وحتى ولو كنت إنساناً متطوراً على هذه الفكرة. ولأن العائلة انتقلت من مكانها الطبيعي الى مكان آخر، حاولت في شكل حاد ومتعسف ان تحافظ على هذه البذرة بما يوائم مجتمعها السابق لا المجتمع الذي هي فيه، بل كانت شديدة التمسك بذلك، ولهذا اصبحت ما بين أصلي وپ"هادف"آخذ اكثر من صيغة في الدخول وهكذا اصبح كل منهم لا يرى سوى جزء مني، وفي ظل هذه الصيغة أصبحت أتعامل مع الخارج بجزء ضئيل فقط من نفسي المتعددة". 2 يقوم البناء الموضوعي في رواية"ريحانه"على ثلاثة محاور رئيسة هي: محور وثائقي، جعلت منه الكاتبة إطاراً وتقنية ارتدادية تعود اليه بين حين وآخر لاستعادة ذكريات ماضٍ بعيد أو أبعد. والمحور الثاني: انساني البعد تمثله"ريحانه"العبدة التي تأخذ الرواية اسمها وتختزل الكاتبة في سيرتها وسيرة عائلتها مأساة العبيد في الشارقة ومنطقة الخليج عند منتصف القرن العشرين وبداية ارتفاع الاصوات المنادية بتحرير الرقيق، وكيف ان العبيد كانوا يتمسكون بالعبودية خوفاً من الحرية المجانية التي لا تعطيهم خبزاً ولا عملاً أو مأوى. أما المحور الثالث: فهو المحور العاطفي الذي قام عليه جوهر هذا العمل الروائي لغة وفكرة ورؤية. وتتمثل في العلاقة الحائرة التي جمعت بين"شمسه"إبنه الحاكم السابق وپ"هادف"الطالب الجامعي إبن البيئة الشعبية المتواضعة. لن أتوقف عند المحور الاول على رغم إشاراته الدالة على اكثر الفترات التاريخية سخونة في منطقة الخليج، قبل ان يشعر العالم ان الخليج بدأ يستيقظ من رقادة اللذيذ ويدرك أبناؤه الأخطار المحيطة بهم وببقية اشقائهم في أنحاء الوطن العربي. وأبدأ الحديث عن المحور الثاني: بامتداداته الانسانية اولاً ثم كونه جزءاً لا يتجزأ من النص الروائي بتكويناته وأنسقته المركزية، وبالدور الذي أدته"ريحانه"بامتياز كونها إحدى شخصيات الرواية، إن لم تكن أهمها. وكونها أيضاً راوية وشاهدة على الأحداث التي أخذت جانباً كبيراً من الرواية. وبما ان الاحداث التي عاشتها ريحانه مع زوجها وولديها، وتلك التي روتها كثيرة، وأهمها أن حياتها وحياة آخرين من العبيد قد تغيرت كثيراً وصار بعضهم تجاراً وملاك أراض، وتغير سلوكهم بعد ان أصبحوا أحراراً وعرفوا طريقهم الى الاعمال المربحة وصاروا"يتعذبون بحريتهم كما كانوا يتعذبون بعبوديتهم"سأترك تلك المتغيرات جانباً وأكتفي بالاشارة الى واقعه طريفة حدثت لريحانه مع طباخ القصر النوبي قبل ان يحدث التغيير الكبير في حياتها. لقد ظنت ان الطباخ عبده النوبي عبداً مثلها، لأنه أسمر البشرة مثلها تماماً، لكنه فاجأها أثناء معاكسة غزلية بقوله إنه ليس عبداً: - لا مش أنا عبد، أنت بس اللي عاوزه تبقي عبده، ما تجي اتجوزك وأكسب فيك ثواب وأخليك كمان حره؟ ابتسمت وقالت له: - ليش انت مش عبد؟ انتظر وترك الأطباق والصحون والأكواب، نزح الماء من على ذراعيه ونظر في الهواء بغضب وقال لها: - عمر أهل النوبة ما كانوا عبيد، السواد ده أصلي يا بت دا حنا كنا سادة وما زلنا، إحنا أولاد حابي اللي ضامم بلاد الذهب بين كفيه من آلاف السنين وإحنا نخيل الوادي المتغربين لكن جبال النوبة ممكن تنطق أسامينا". ص51 في المحور الذي وصفته بالعاطفي، وفيه أهم أجزاء هذا العمل الروائي من وجهة نظري تتركز المسرودات والحوارات حول أمور شتى منها الفكري والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والفلسفي وبما ينبئ بوضوح عن الثقافة الشمولية للروائية ميسون صقر وهذا ما تجسده اللحظات المسرودة كجزء من ذاكرة"شمسه"الراوية والشخصية الروائية في آن، ساعدها على الإمساك بذلك المستوى من السرد حبها لپ"هادف"الطالب الجامعي، مشوش الحواس والوجدان والذي زادت حيرته وتشوشه حينما جاءت يوماً حاملة بعض السندويتشات ليأكلاها معاً في كافتريا الجامعة فرفض ان يأكلها... ومرة ثانية عندما جاءت بألبوم صورها وجاء بالبوم صوره. حيث تجلس أمها على كرسي كبير مذهب ويظهر جدها بلباسه الخليجي حاملاً سيفاً: "قلبت صفحة أخرى وأشرت الى صورة الحصن وقلت: هذا هو بيتي الذي ولدت فيه. نظر إليه بأسى قائلاً: ابنة سلطة. قلت بتوتر وكأنه أهانني: أنا لست ابنة سلطة، وحياتي مؤسسة على الفقد. أقفلت الألبوم ونظرت اليه قائلة: - يريدون ان يزوجوني لابن عمي. - طيب - يعني شو كيب؟ - يعني أنت ماذا تفعلين؟ - كل شيء عليّ أنا؟ - قال: - أنا لا استطيع التدخل". ص139 وكأنما انتهت علاقة الحب غير المتكافئة عند هذه الاجابة التقريرية السلبية الباردة، وانتهى معها أجمل مشاهد الرواية وأكثرها عذوبة وتوهجاً. أخيراً ينجح العمل الروائي عندما يضيف الى معلوماتنا جديداً، وعندما يجعلك تحب شخصياته او تتعاطف معها وهذا بعض ما فعله معي هذا العمل الروائي المتعدد الشخوص والدلالات لمبدعة حالمة وضعت القصيدة جانباً - لفترة قصيرة - كي تحتفي بظلال السرد وتعلن خلاله أنها ما تزال متمسكة بالجذور، وفي الوقت نفسه ستبقى منفتحة على العالم دونما ضغوط أو مركب نقص.