صعب هضم النزعة الاحتفالية عند إدارة جورج دبليو بوش وغبطتها بانتصارات تروّج لها فيما الواقع العراقي مظلم ومؤلم نتيجة تدمير البنية التحتية العراقية في الحرب الأميركية على الإرهاب. صعب أيضاً مراقبة تحول العراق مجدداً إلى ورقة انتخابية في النزاع بين الجمهوريين والديموقراطيين على البيت الأبيض، في الوقت الذي يقع العراق في مخالب حرب الإرهاب التي أتت الى داره بدعوة من الرئيس الأميركي أسرع الجهاديون الى تلبيتها بجشع الى الدموية والتخريب وتدمير للعراق وأهله. الاصعب على الضمير أن يُسمح للغضب بأن يكون مبرراً لحجب التمني للعراقيين بيوم أكثر أمناً وغدٍ له طعم التعافي من كوابيس الاستبداد والقهر والظلم والاحتلال والاستغلال على أيادٍ مختلفة. فالمخاطر التي تحدق في مستقبل أجيال العراق تجعل هذه الأجيال قنابل موقوتة ضائعة الأهداف. وما يجعل العراق ملفاً صعب القراءة في هذا المنعطف يعود، جزئياً، الى رفض الفاعلين فيه تصحيح الأخطاء بصورة جذرية، لأن في مثل هذا التصحيح ابداء لبعض الندم وطلاقاً من استراتيجيات رئيسية. كما قبل حرب العراق، كذلك بعدها، معظمنا في تمزق وحيرة. ذلك لأن ما يحدث في العراق اليوم يستدعي حسم المواقف، لكن العاطفة والحيرة تحولان دون تمكن الأكثرية من الحسم، عراقية وعربية وأميركية وأوروبية كانت هذه الأكثرية. جزء مهم من هذه الأكثرية يكرهون دعاة اجتياح العراق الذين اختلقوا ذرائع لم تكن ذات علاقة بالدوافع الحقيقية. يكره أكثر كيف توقف ذلك الاندفاع الى اجتياح العراق عند افتراض نجاح العمليات العسكرية وانهيار النظام، وكان خالياً من استراتيجية"ما بعد الاحتفاء". إضافة، يرى هذا الجزء من الرأي العام كيف وقع اختيار الإدارة الأميركية على تأجيج التطرف في الساحات العربية والإسلامية والإسرائيلية والأميركية. فلقد كانت أمامها فرصة حقيقية لدق المسمار الأخير في كفن التطرف في العالمين العربي والإسلامي لو اختارت تقوية الاعتدال وحل النزاع العربي - الإسرائيلي. لكنها لم تفعل، فأصابت الاعتدال بضربة هدّت أسسه وعرّضته هشاً أمام التطرف ونقمة الجهاديين عليه. ولعل ما يطيّر صواب الغاضبين من مغامرة إدارة جورج دبليو بوش في العراق هو كيف تحوّل ما سمي بمشروع الديموقراطية في المنطقة عبر حرب العراق الى ذخيرة في أيدي الأنظمة المتحايلة على الديموقراطية وتلك الرافضة للديموقراطية والاصلاح. ذلك أن مجرد ذكر"العرقنة"بات نداء وطنياً لحشد الخوف من التغيير وللتخويف من عواقب اللعب بالوضع الراهن. فضرب الاستقرار في العراق بات المبرر للحفاظ على استقرار الأنظمة بذريعة أن اسقاطها قد يأتي على البلاد ببشاعة ما يحدث للعراقيين. والفشل الأميركي في العراق، حسب الذين يسمون المغامرة الأميركية فشلاً، قد نسف أحلام الكثير من الشباب العربي الذي لم يعارض ولم يمانع الحرب في العراق، لأنها الوسيلة الوحيدة للتخلص من الأنظمة المستبدة في البقعة العربية. الأميركيون الغاضبون من حرب بوش في العراق يتحدثون عن توريط أميركا في مستنقع لم تكن في حاجة إليه وعن حرب تضليلية ما زالت أهدافها الحقيقية لغزاً لمعظم الأميركيين العرب الغاضبين من حرب دبليو في العراق ينظرون الى الدمار والخراب والحرب الطائفية في العراق، ويتحدثون عن مشاريع التقسيم ليس كفرز لم يكن في الحساب، وإنما كمشاريع دُرست ونوقشت واُقرت عندما اتخذ المحافظون قرار الحرب في العراق. إنما هناك من لا ينظر الى الأمور من هذه الزاوية، ويرفض تسمية التطورات فشلاً ويتحدث عن استكمال للمشروع الأميركي في العراق ليصبح العراق حقاً نموذج التغيير والديموقراطية. هناك أيضاً من يحتج على تجاهل مساهمة المتطوعين الجهاديين في تدمير العراق واستخدام شعبه سلعة في مشاريعهم التدميرية والانتقامية. هذا الرأي محق، إذ أنه يشير الى الصمت العربي المريب، لا سيما الشعبي، ازاء مآسي العراقيين على أيادي الجهاديين بحجة أن قوى التمرد على الاحتلال تتحدى المشروع الأميركي في العراق والمنطقة. هذه العاطفة الشعبية مهينة للعراقيين الذين تتحسر الشعوب العربية عليهم وتتظاهر بالتضامن معهم، فيما هي في الواقع تبارك، عملياً، هدر أرواحهم وتقليص عيشهم الى سلعة. ثم هناك ناحية الدين والطائفية التي لا بد أن ساهمت الحرب الأميركية في العراق باطلاقها، لكنها ليست حصراً بضاعة أميركية مصنوعة في إدارة جورج دبليو بوش. فالعطل في البنية الداخلية العربية وليس فقط عطلاً آتياً الى النفس العربية بأوامر من واشنطن. ما يتطلبه الوضع السائد في العراق يبدأ بالكف عن النظر إليه حصراً، إما من منظار المشاريع الأميركية الفاشلة ولربما الخبيثة نحوه، أو من منظار خلاصه على الايدي الأميركية وعبر القوات الأميركية. ما يتطلبه تعافي العراق من آلامه هو التوقف عن تصنيف أمثال أبي مصعب الزرقاوي"مقاومة"مشروعة للاحتلال، لأن هذا الرجل مارس المزايدة على أسامة بن لادن وايمن الظواهري باشلاء الجثث العراقية. إنه مَن حوّل الأنظار عن الاحتلال الى التحريض الطائفي. وهو مَن أثبت له الشعب العراقي أن"خدماته"مرفوضة، لأنه لم يجد في العراق قاعدة شعبية تحتضنه وإنما وَجد استعداداً لدى المتطوعين لحروب طائفية لتلبية دعواته الى الكراهية. فالتخلص منه يخدم العراقيين أكثر مما يخدم جورج دبليو بوش ونائبه الصامت هذه الأيام ديك تشيني ووزير دفاعه الذي مضغ الكثير من غطرسته بعدما فضحته حرب العراق دونالد رامسفيلد. هذا الرجلان يشكلان وجه البغض والفشل والغطرسة والتطرف. فهما واجهة المحافظين الجدد الذين يختبئون اليوم، فيما كانوا بالأمس يتعالون بأبهة الهيمنة والعظمة. يختبئون لأن قطار الانتصار مرّ بهم وهم في الخندق. هذا لا يعني أن الجهاديين انتصروا في حرب الإرهاب التي يخوضونها مع الأميركيين في العراق وخارجه. فهم ما زالوا في محطة انتظار قطار الانتصار، وسيفوتهم وهم في الخندق. فهذه حرب غير قابلة للانتصار، لا للأميركيين ولا للجهاديين. إنها غير الحروب التقليدية التي توضع لها الخطط ويخوضها الجنود والقوات، ولها استراتيجيات عسكرية وسياسية وبرامج زمنية ومواعيد حاسمة. لذلك، يجب عدم المضي في ارتهان العراق ساحة لحرب الإرهاب، فلقد دفع الشعب العراقي أكثر من حصته لهذه الحرب، وهو اُنهك. لكن المشكلة أن العراق واقع حالياً في دوامة حرب الإرهاب، إذ أنه سيدفع الثمن لو انسحبت القوات الأميركية منه أو بقيت، لأن قوى الجهاديين والتمرد والحرب الطائفية قد توغلت فيه لدرجة تجعل صعباً الحسم، فيما هو حقاً في مصلحة العراق. جورج دبليو بوش اعترف بسوء تقديره عندما تحدى الجهاديين والإرهابيين الى العراق للمبارزة. لكن جورج دبليو بوش لم يندم ولم يعتذر للعراقيين على قوله تكراراً إن حرب العراق جاءت لتحويل حرب الإرهاب بعيداً عن المدن الأميركية. وما لم يشعر بوش بالندم على ذلك القول وتكراره كسياسة، لن يتمكن الرئيس الأميركي من ادراك ما قام به وما عليه القيام به في هذه الحرب. ما لم يعترف بوش بالخطأ الجذري في شن هذه الحرب في العراق من زاوية الحرب على الإرهاب، أن العراق سيبقى ضحية السياسة الأميركية بغض النظر إن كانت بريئة أو خبيثة. الحكومة العراقية بدورها مخطئة في وصف حربها على التمرد، من زاوية الحرب الدولية على الإرهاب، ان حربها على الإرهاب المحلي يجب أن تكون حرباً محلية بمساهمة شعبية وبشراكة استراتيجية مع القاعدة الشعبية العراقية. هكذا فقط يمكن دحض مشاريع حرب الإرهاب في العراق. بهلوانية الزيارات المفاجئة على نسق زيارة دبليو الى العراق هذا الأسبوع واستخدام التكنولوجيا المتطورة عبر الساتلايت للتباحث في استراتيجية أميركية - عراقية مسائل مفيدة لقطاعات صغيرة لا سيما في الساحة الأميركية. فالمصافحة بين بوش ورئيس حكومة العراق نوري المالكي ليست بمثابة وظيفة آمنة لفرد عراقي. والتواصل بالساتلايت لا يماثل اصلاح شبكة كهرباء أو تجهيز مستوصف أو مدرسة في العراق. فإذا كان لا بد من بقاء القوات الأميركية في العراق الآن، وهذا ليس بالضرورة القرار الصائب، يجب أن يضع جورج بوش اسساً جديدة لبقاء هذه القوات هناك غير اسس خوض الحرب على الإرهاب. عليه أن يصدر تعليمات"الاختفاء"بحيث يتحول التدريب من استدعاء الإرهابيين الى المبارزة على نسق تحدي بوش الى القيام بدور للبناء وللتعويض عن الأخطاء الحقيقية التي ارتكبها الغزو والاحتلال والتي لم يعترف بها حتى الآن، وعلى رأسها تفكيك المؤسسات وتدمير البنية التحتية. هذا يعني أن على الرئيس الأميركي أن يعلن اعتزامه تحويل الأموال من الموازنة العسكرية الى الموازنة المدنية للعراق. بكلام آخر، أمام هذه الإدارة ثلاثة خيارات: أولاً، الانسحاب الفوري من العراق كي تتوقف حرب الإرهاب في الساحة العراقية، وكي تستعيد الولاياتالمتحدة بعضاً من هيبتها الدولية لتتمكن من التصدي لتحديات إيران، مثلاً، بدلاً من السقوط في فلك الخوف من انتقامها من الجنود الأميركيين في جارتها العراق حيث لها الآن نفوذ ساحق بسبب الحرب الأميركية التي أطاحت الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. ثانياً، أن تتحول مهمات القوات الأميركية أو قوات التحالف، كما تفضل واشنطن تسميتها، من خوض حرب الإرهاب الى مهمات التأمين المدني، بحيث تفتتح مستشفيات ومصانع وبحيث تنطلق الاستراتيجية من تمكين الشعب العراقي ليصبح الحليف الأهم في تطبيع العراق وطرد المرتزقة منه. لكن هذا يتطلب حتماً برنامجاً واضحاً يؤدي الى وضوح خروج القوات الأميركية من العراق وانهاء الاحتلال. ثالثاً، استمرار الوضع الراهن، أي المضي في هذه السياسة البائسة القائمة على استخدام العراق ساحة لحرب الإرهاب. وهو اسوأ الخيارات. فهذه حرب غير قابلة للانتصار مهما زعم جورج دبليو بوش أو أسامة بن لادن عكس ذلك. فهي حرب ديناميكية لا تخضع للرغبات والاستراتيجيات، خصوصاً أن الهواء الذي يتنشقه الجهاديون التدميريون هو السياسات الأميركية نحو فلسطين ونحو العراق والتي تعتبرها القاعدة الشعبية العربية والإسلامية ذروة البغض للشعوب العربية والمسلمة. ما أثبتته التجربة العراقية هو خرافة القول إن الشعوب العربية متفقة على ترحيبها بالتصدي الجهادي للهيمنة والغطرسة والعظمة الأميركية. إن قطاعات كبرى من الرأي العام العراقي تنظر بازدراء الى الاحتضان العربي للتصدي الجهادي ليس حباً بالأميركيين وإنما بغض لنفاق المشاعر التي تزعم التضامن معها، فيما تقهقه على اشلاء جثث الأبرياء في العراق. وللتأكيد، فإن عناوين الجهاديين ليست في عواصم السنّة فقط، وإنما لإيران تاريخ حافل بالعلاقات المتينة بقوى التطرف والإرهاب من خارج بيئة الشيعة، على رغم ما يحدث الآن في العراق من رعاية إيرانية للشيعة في الحرب السنّية - الشيعية. فالفاعلون في العراق عدة ومشاريعهم مختلفة في حسن نياتها أو في خبثها. ولقد بات ضرورياً استدبال الاحتفاء بانتصارات عابرة بتفكير عميق في متطلبات انقاذ العراق من حرب الإرهاب التي أخذته رهينة ودمرته في عمق بنيته التحتية.