تشرف المنطقة العربية على صحوة اخرى من كابوس دهمها وهي في غفوة عميقة بعيداً عن مواجهة الواقع وما يتطلّب اصلاحه من اجراءات. قد تكون هذه الصحوة لمجرد التثاؤب قبل العودة الى أحضان كسل النوم والامتناع عن التنشط والحيوية، وعندئذ تعود المنطقة العربية الى الحلقة المفرغة بالمواربة والفساد والعجز والى تلك الهموم والتذمر والإحباط. اما اذا اصاب الوعي تلك الصحوة فلا بد عندئذ من نقلة نوعية للشعوب والقيادات فكراً وذهناً وعاطفةً، بما يبعدها عن نمط المناطحة او الانبطاح. فهناك منطقة رمادية ضرورية بين الخيارين تتطلب توظيفها برزانة وتماسك وبتحديد عملي للمسافة بين نقطة الانطلاق وبين الهدف. فهذا زمن لا يسمح بمواجهة هوجاء مع الولاياتالمتحدة لأن اميركا في حال تأهب للسحق والإملاء، بعصبية وقومية وغطرسة ممزوجة بالانتقام. لكن المرحلة الراهنة من مسيرة المنطقة العربية لا تتحمل ايضاً مجرد الاكتفاء بالاذعان والتوسل والإنزواء خوفاً من المارد الاميركي الثائر. الخيارات متوافرة، وايران مثال لكيفية الإبحار في المنطقة الرمادية. فالمطلوب صحوة تفكير عربية على غير نسق العادة والاعتياد. واضح ذهول الاكثرية العربية ازاء تطورات الحرب الاميركية البريطانية التي انتهت بزوال او اختفاء او سقوط او هروب نظام صدام حسين. هذا الذهول عائد اكثر الى دخول القوات الاميركية بغداد من دون المقاومة التي توعّد بها النظام العراقي، مما هي ازاء تحقيق الانتصار العسكري لقوات الدولة الاعظم في العالم. الأكثرية العربية لا تذرف دمعة على سقوط نظام مارس البطش والاستبداد بشعب العراق، لكنها لا تحتضن الاحتلال الاميركي للعراق حتى وإن كان محطة قصيرة الى عراق ديموقراطي. والسبب ان لا ثقة بدوافع الادارة الاميركية وراء حربها على العراق، ولا اطمئنان الى أجندة دعاة اجتياح العراق كمحطة اولى. أهل العراق لهم الحق الكامل في الاحتفال والابتهاج لسقوط نظام فتك بهم واعتبرهم ملكاً له ورهينة لبقائه في السلطة، ولا عتب ابداً على نشوة العراقيين حتى وان صدمت كثيرين من العرب عندما اتخذت طابع الترحيب بالقوات الاميركية ورفع شعارات الشكر لجورج بوش. فمن حق العراقيين "فشّة الخلق" بعدما عانوا كثيراً وطويلاً من استعمار واحتلال من صنع محلي، ومن فظائع ظلم وعقاب لأكثر الانظمة العربية قمعاً. بعد النشوة، على الشعب العراقي ان يدقّق في ما عليه ان يفعله كي يستعيد العراق، وكي لا يطول الاحتلال الاميركي، لئلا يؤدي "التحرير" الى تقسيم العراق، ولئلا يحل حكم الجنرالات محل الحكم الديكتاتوري، ولئلا يستفيد دعاة اجتياح العراق وشركاتهم من "كعكة" العراق من دون استفادة شعبه من موارده الطبيعية. واذا كان للشعوب العربية خصوصاً النخبة منها ان توظف فرصة سقوط النظام العراقي لتحقيق تحول نوعي في حياتها، فإن عليها ان تقرأ بعمق كيفية صنع القرارات في واشنطن وان تتعرف الى شخصيات النافذين في صنع القرارات وأهدافهم. عليها البدء بعمل منظم للتأثير فيها، وإلا فإنها ستصبح ضحية مكررة. ادارة جورج دبليو بوش لن ترتدي ثوب الغفران والعطاء والتسامح والمحبة لمجرد ان دبليو رجل متدين نسبياً. انها مفعمة بمشاعر الانتقام وتلقين الدروس والتحقير والكره لأن هذه صفات اشخاصها، ولأن هؤلاء يعتقدون بأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها امثال العرب. جرأتهم بالغة ومخيفة، وما يعتبرونه انتصاراً لهم في العراق يعدّونه ذخيرة تمكّنهم من فرض رؤية واجندة على المنطقة وعلى العالم لا تتسم ابداً بالشراكة او بأخذ الرأي الآخر في الاعتبار. لغتهم لغة المصالح والعظمة والفرض والاستعلاء. جورج دبليو بوش ليس بريئاً منهم، بل يبدو مأخوذاً بهم وبآرائهم ونظرياتهم الخطيرة. فهو متعلق بزمرة التطرف داخل وزارة الخارجية ، البنتاغون، في مكتب "النفوذ الاستراتيجي" وعبر "مجلس سياسة الدفاع" الذي يقدم الاستشارة لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائبه بول ولفوفيتز، ووكيله دوغلاس فايث. لكن ما زاد الاهانة على الجرح ان دبليو رشح اخيراً دانيال بايبس الى "مجلس مؤسسة الولاياتالمتحدة للسلام" وهي مؤسسة فيديرالية انشأها الكونغرس لتعزيز الحلول السلمية للنزاعات الدولية. اذا لم يقرأ جورج دبليو بوش ما كتبه دانيال بايبس عن العراق والاسلام فإنه يمكن اعتباره جاهلاً حقاً لما يورطه فيه المتشددون والمتطرفون من المحافظين الجدد. ولأنه يُفترض به انه يجرؤ على تصحيح الاخطاء فمن المتوقع منه ليس فقط سحب ترشيح بايبس بل الاعتذار عن الخطوة ايضاً، مع معاقبة من ورطه بها بطرده فوراً. اما اذا كان جورج دبليو بوش قرأ واطلع على كتابات بايبس والأجندة التي يمثلها، فإن الرسالة ستبدو عندئذ واضحة لكل عربي ومسلم، داخل أميركا وفي اية بقعة في العالم، وهي: جورج دبليو بوش يكره في عمقه كل ما هو مسلم وعربي ويريد حقاً صراع الاديان، وصراع الحضارات. لا منطقة رمادية في هذا الامر. فدانيال بايبس من اكثر دعاة الحقد والبغض تشدداً وعنفاً، وهو من أطلق حملات تحريض وتخويف حتى ضد اساتذة الجامعات الذين تجرأوا على انتقاد اسرائيل. انه رجل مهووس باسرائيل وبكراهيته الصادقة للمسلمين والعرب. وعيب ان تتقدم الادارة الاميركية على مستوى رئيسها بترشيحه لمنصب يفترض ان يكون من أجل تعزيز التفاهم والسلام. انه رجل عنصري، وعيب على اميركا ان يمثّلها. دانيال بايبس ليس أسوأ من ريتشارد بيرل الذي ساهم جذرياً في رسم اجتياح العراق واحتلاله من اجل اسرائيل اولاً ومن اجل عقيدة "الاستباق" التي وقعت هدية في حضن امثال ريتشارد بيرل ودانيال بايبس. فلو بقي هذان الرجلان، وكثير غيرهما، خارج حلقة النفوذ التي تسيطر على صنع السياسة الاميركية، والاسوأ، على قرارات الرئيس الاميركي نفسه، لكان في الامكان القول ان لكل حقه في رأيه، والنقاش امر صحي للولايات المتحدة الاميركية انما فهناك مجموعة فاعلة، الى جانب "مجلس سياسة الدفاع" مثل "مؤسسة واشنطن للشرق الادنى" التي تطلق سياسات وانطباعات حتى وإن لم تكن صادقة، بهدف تحريف الوقائع للتأثير بعمق في صنع السياسة الاميركية، اعلامياً وداخل الادارة وعلى صعيد الرأي العام. كذلك هناك وكالة تسويق رجال التطرف في التلفزيون الاميركي، مثل شركة "بينادور" التي تديرها المساعدة السابقة لدانيال بايبس والتي تلمع في مهمات التسويق الاعلامي لمصلحة من تمثله. مرة اخرى، لهذه المؤسسات كل الحق في ان تسوّق ما تؤمن به او ما تراه في مصلحة اميركا او اسرائيل. الخطر يكمن في تبني الرئيس الاميركي ورجاله منطق هؤلاء وفي السماح لهم بالمشاركة في صنع السياسة الاميركية بلا محاسبة. والدرس الذي يجب ان ستوعبه العرب من هؤلاء غالٍ جداً، ما لم يفهم العرب معناه، فإنهم سيبقون خارج حلقات التأثير في صنع السياسية الاميركية. الرجال الذين انتقاهم جورج بوش لمناصب ادارته مثل نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، لهم بدورهم رجالهم وشركات تهمهم يريدون لها الاستفادة من عراق ما بعد صدام. وهؤلاء يشملون أهم السلطات مثل تعيين جيه غارنر الجنرال المتقاعد في منصب "الوالي" في العراق، ومثل ما يتردد عن ترشيح مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق جيمس وولزي، ك"مدير" للعراق المحتل. غارنر مقرّب جداً من زمرة المتطرفين في البنتاغون التي تنظر الى منطقة الشرق الاوسط من منظار اسرائيل اولاً. وولزي يريد للولايات المتحدة ان تخوض الحرب العالمية الرابعة، حسب تعبيره، لسنوات عديدة، لإعادة رسم خريطة الشرق الاوسط، وعنده قائمة اعداء بينهم سورية والسنّة عموماً باعتبارهم في رأيه منتجي "القاعدة" وهو، كغيره من زمرة المتطرفين، يريد لعب ورقة السنّة الشيعة كإحدى ادوات رسم خريطة المنطقة لتفتيتها. أحد أهم ملهمي هذا التفكير هو بول ولفوفيتز الذي بات بدوره ملهم جورج دبليو بوش. فهو مصرّ على "إجراء تغيير في سورية"، حسب قوله، وبوش معجب بالقبضة التي يهزها ولفوفيتز ورامسفيلد لتهديد سورية، إذ قال تعليقاً، وبابتسامة: "هذا جيد". أمام هذا الواقع في عهد "الرامسفيلوتزبيرلية" المعطوفة على "الوولزبايبسية"، على القيادة السورية أن تدقق عميقاً في خياراتها. فهي غير مسموح لها العمل على أساس المنطقة الرمادية، بمعنى الابحار بين الانبطاح والمناطحة، فإما تستبق ما ستطالب به وتقفز إلى عملية ديموقراطية حقيقية في سورية قد تؤدي إلى اختيار الشعب السوري التمسك بهذه القيادة، وإلا فإن "تغيير النظام" في سورية سيحدث طبقاً لما رسمه دعاة اجتياح العراق. أما في ما يخص "حزب الله" وما تتمسك به سورية من تمييز بين الحق في مقاومة الاحتلال وبين "الإرهاب"، فهذا كلام تنوي زمرة البنتاغون سحقه بشكل أو بآخر. وفي رأي هذه الزمرة، فاتت على سورية فرصة التفاوض مع إسرائيل على الجولان، وعليها الآن القبول بأقل بكثير مما "عرضته" إسرائيل عليها قبل سنوات. فسورية آخر حلقات "تحييد" حدود إسرائيل، إما سلاماً أو حرباً. وهذا قرار استراتيجي جدي له أولوية في أجندة دعاة تغيير خريطة المنطقة. فعلى القيادة السورية العودة إلى طاولة رسم الخيارات والاستراتيجية، على ضوء ما حدث في العراق. وما حدث في العراق لم يحدث حصراً نتيجة ما رسمه دعاة الاجتياح على طاولة الاستراتيجية، وإنما ساهم فيه أيضاً عناد القيادة العراقية ورفضها احباط اجندة هذه الزمرة، باكراً، وبمبادرة واستباق. فأرواح المدنيين العراقيين هُدرت والعراق أصابه الأذى الكبير في حرب غريبة ليس مفهوماً لماذا أراد صدام حسين خوضها. المهم الآن أن يأخذ العراقيون مصيرهم بأيديهم باتزان وعقلانية، بلا مناطحة ولا انبطاح. المهم أن تفهم القيادات العربية أن لا مناص من تغيير جذري في نوعية حكمها وتحكمها، وأن تفهم الشعوب العربية أن حقبة التذمر ولوم الآخرين حان زوالها، وأن تفهم تيارات التطرف أنها لن تكون قادرة على الحاق الهزيمة، بل حتى المواجهة الفاعلة مع أميركا، وأن تفهم تيارات الاعتدال أن هناك فرصة لها لتوظيف المنطقة الرمادية بين الانبطاح والمناطحة. المرحلة الانتقالية في العراق تتطلب من الإدارة الأميركية الوعي والحكمة بدلاً من غرور الانتصار وغطرسة العظمة. الأممالمتحدة مهمة في هذه المرحلة، لأن الشرعية الدولية مساهم في تبديد الشكوك بالغايات الأميركية، كما في مراقبة انتخابات ضرورية، وبسرعة. ليس منطقياً ولا عملياً ان يُتوقع من الولاياتالمتحدة أن تقدم العراق هدية إلى الأممالمتحدة. إنما ما يمكن أن تتجنبه الإدارة الأميركية هو فرض رجال على العراق غير مستحبين وغير موثوق بهم عراقياً، مثل أحمد الجلبي. وفي هذا الصدد، من شأن رجال مثل عدنان الباجه جي، ألا يخافوا من المغامرة في المرحلة الانتقالية للعراق. فعدنان الباجه جي رجل وطني مرموق، سمعته وطنية، خلاصة مواقفه أنه ضد النظام وضد الحرب وضد حكم عسكري في العراق. ماضيه وتاريخه يؤهلانه للعب دور مهم في هذه المرحلة، فليته يفعل ذلك. فالعراق تحت سلطة صدام حسين فصل انتهى. جورج بوش عملياً هو الرئيس الفعلي للعراق اليوم. غداً، العراق للعراقيين إذا شاؤوا وعقدوا العزم. وهو محطة لغايات آخرين، إذا تقوقع الشعب العراقي في زاوية الاتكال على رسم آخرين لمصيره. العراق محطة. والشعوب العربية قادرة على أن تجعله محطة صحوة. وإلا فإنه غفوة عربية دائمة أيقظها كابوس ليجلس على صدره لأجيال مقبلة.