هل يعرف أحد عدد الأمم التي تود الآن أن تبث برامجها وأفكارها ومسلسلاتها وأخبارها في اتجاه العالم العربي، باللغة العربية؟ المشاريع كثيرة، والفضائيات العتيدة تتكاثر مشاريع وأفكاراً، بل تنفيذاً في بعض الأحيان، بحيث ان واحداً من الخبراء توقع أن يصل عدد الفضائيات في العالم العربي أو الموجهة إليه، الى ستمئة خلال سنوات قليلة. حتى الآن ليس ثمة فضائية كورية تبث - على رغم ارتفاع معدلات التبادل التجاري بين كوريا الجنوبية والبلدان العربية - في اللغة العربية موجهة الى الشرق الأوسط، لكن كل المؤشرات تدل على ان هذا المشروع بات قريباً. ومن هذه المؤشرات ازدياد الاهتمام الرسمي وغير الرسمي في سيول، بالنافذة الإعلامية الوحيدة التي تطل منها كوريا على العالم العربي، وهي الاذاعة الكورية التي تبث بلغة الضاد. إذ ان كل شيء يدل اليوم على انها قد تتحول لاحقاً الى فضائية. وإن كان ثمة تكتم كبير حول هذا الأمر، علماً أن الإذاعة الكورية تبث باللغة العربية منذ أكثر من ثلاثين سنة. كثير من الرهبة ينتابك أثناء دخولك الى مبنى الإذاعة الكورية، الملحقة بالتلفزيون الوطني"كي بي أس". ذلك البناء له تاريخ من الحروب والدم. اليابانيون أنشأوا الإذاعة عام 1927، ثم استولت عليها القوات الأميركية في كوريا، بعد معارك ضارية مات فيها كثر، وأنشأوا"كي بي أس"التي ظلت الإذاعة الوحيدة حتى العام 1954. في فترة الحرب الباردة تحولت الإذاعة الى بث"بروباغندا"تؤلب سكان كوريا الشمالية ضد الحكم الاشتراكي في بلدهم. اليوم يبلغ عدد الإذاعات التي يستمع اليها الكوريون أكثر من 250 محطة، تبث على"أي أم"وپ"أف أم". الإذاعة الرسمية تبث بپ12 لغة بينها الانكليزية والفرنسية واليابانية والفيتنامية والاندونيسية والإسبانية وأيضاً العربية. قبل ثلاثين عاماً انطلق أول صوت عربي على الموجات الأثيرية الكورية، ليصبح اليوم مسموعاً في دول العرب والعالم، وعبر الانترنت. لولوة، قمر وعزت الجندي، ثلاث دعامات أساسية في القسم الذي يتعاون أيضاً مع مراسلين ومتعاونين في سيول والعالم. كوريتان تتكلمان العربية، تفهمان"دهاليز"الكلمات، تلتقطان حس النكتة المصرية، تعرفان الكثير عن تاريخ العرب والسياسة في المنطقة، بحكم الدراسات التي تلقتاها في الأقسام العربية في الجامعات الكورية أربع جامعات تدرس العربية. لولوة الأقدم. تعمل في الإذاعة منذ عشر سنوات، وهي اليوم رئيسة القسم العربي. تجلس الى الكومبيوتر في ذلك المكتب المكتظ بموظفين يتحدثون 12 لغة مختلفة، تبدو مشغولة في ترجمة الأنباء من الانكليزية، والمعلومات من الكورية الى العربية لنشرها على موقع الإذاعة على الانترنت:"نصحني أستاذي أن أتعلم العربية لأن كوريا تتجه الى أن تصبح دولة عظمى منفتحة على العالم". يدقق عزت الجندي، المصري المقيم هنا منذ ثلاث سنوات، والعربي الوحيد في الإذاعة، بعربية لولوة. يضحك بود على طريقة نطقها:"تتكلم المصرية كأنها ولدت في القاهرة". جاء من"صوت العرب"الى"صوت سيول"، لتصدح نبرته الجهورية النفاذة بكلمات رقيقة عن"ابتسم أنت في سيول... الشمس المشرقة... الأرض المرحبة". يذيع نشرات الأخبار العربية ويقدم أكثر من برنامج حواري. حافظة البرامج العربية تضم: سيول بانوراما، صفحات من التاريخ الكوري، دنيا الاقتصاد، ملامح ثقافية، كوريا حاضر ومستقبل، ابتسم أنت في سيول، من أغاني القمة، رسائل المستمعين. "كيف حالك يا قمر؟"."الحمد الله، على ما يرام. كويسة"، ترد قمر على لولوة بمزيج من الفصحى والمصرية. لغة لطيفة لا تمنع نفسك من تقليدها او الضحك منها تحبباً."كأنكم تدبلجون مسلسلاً". لكن الأمر لا يحتمل الكثير من الترفيه. فما يقوم به الفريق الثلاثي يعادل جهد أكثر من عشرة أشخاص في مؤسساتنا العربية. "سمك، عليهم أن يأتوا بسمك أكثر"، يقول عزت الجندي، وهو يحمل وجبته في المطعم الملحق بالإذاعة، مستغرباً عدم الإكثار من تقديم السمك في بلد تحيط به البحار من كل جانب. يشكو أيضاً من"ضيق عين"زميلتيه الكوريتين:"يضنان عليّ بإجازة عبارة عن شهر واحد في السنة". تضحك لولوة:"نعم، هناك"ضيقة عين". فهناك عنصرية من مسؤولي التلفزيون تجاه الكوريين. نحن نرتاح أسبوعاً في السنة فقط". يضحك الجميع وتبادر قمر، المخرجة، بالقول:"لا تظن أننا نتصارع، انه جزء من أجواء التسلية اليومية. نحن متصالحون ومسالمون. مسيحية وبوذية ومسلم نعيش معاً في الاستوديو بسلام". تحمل قمر رسائل المستمعين العرب وتعبّر عن فرحها الكامل برسالة مستمعة مغربية شابة بعثت بأوراق لونتها ورسمت عليها نجوماً، الى جانب عبارات تنضح بالرقة والعذوبة عن درجة إعجابها ببرامج الإذاعة الكورية العربية:"مغرومة ببرنامج أهالي القمة الذي يبث الأغاني الكورية الجميلة... طريقة تقديمك يا لولوة تؤثر فينا كثيراً ونستمع اليك في حضور العائلة والأصدقاء". رسائل كثيرة من الجزائر ومصر وتونس وفلسطين ومن عرب المهجر وأيضاً الكوريين الذين يتحدثون العربية. لكنّ الأمر لا يخلو من الطرائف."نتلقى رسائل من العراق وفلسطين من مستمعين يطلبون تبرعات من الحكومة الكورية. وفي إحدى المرات اضطرت للجوء الى السفارة المصرية في سيول لحل مشكلة تلك المستمعة المصرية في القاهرة التي ذهبت لاستلام جائزة من الإذاعة وتعرّض لها مصريون ونعتوها بالخائنة لأنها تتعاون مع الكوريين الذين لديهم جيوش في العراق، كما يقولون". تتدخل لولوة:"نحن إذاعة حكومية لكنها ممولة من الشعب الكوري، تماماً كما الحال مع نموذج الإذاعة البريطانية. لذلك لدينا الحرية الكاملة في التعبير عن آراء لا تتلاءم بالضرورة مع السياسة الرسمية للدولة. ناصرنا الشعب العراقي في محنة الاحتلال، نقيم جسوراً أثيرية مع أهالينا في كوريا الشمالية، نشتم الحكومة الكورية في بعض الأحيان ولا أحد يجرؤ على إسكاتنا. نتمتع بحصانة المجتمع الكوري". تغلق الفتاتان باب الاستوديو على عزت الجندي الخمسيني."أستاذ، حان وقت التسجيل". داخل الاستوديو البث العربي في مبنى الإذاعة الكورية، مرّت أصوات كثيرة لرجال فكر وسياسة وثقافة معروفين ومجهولين. كبار وصغار. فرق وأفراد."أرشيفنا يحفظ مقابلات مع رفيق الحريري، بطرس غالي، عبدالله بن عبدالعزيز وغيرهم من الشخصيات العربية التي تعيش في سيول أو تزورها".