هذا فظيع. "خذوا هذه الجثة حتى لو لم تكن لاخيكما. فعلى الأقل يصبح لديكما شاهد قبر تبكون عنده". هكذا نصح الطبيب في مشرحة بغداد شقيقين اشتبها بأن إحدى الجثث المشوهة تماماً قد تكون لشقيقهما الذي غادر ولم يعد. كان زميلنا مشرق عباس، مدير مكتب"الحياة"في العراق، حاضراً حين ارتبك الشقيقان أمام الجثة وحين أطلت نصيحة الطبيب. منذ سنوات والعراق مصدر أحزان. بدأ الحزن برؤية العراق يسقط في قبضة الاحتلال وتضاعفت الاحزان والمخاوف برؤية العراقيين يتبادلون القتل والطعن تحت اعلام الاحتلال أو على مقربة منها. قبل ثلاثة أعوام سألت صديقاً عراقياً عن خطر وقوع العراقيين في فخ تصفية الحسابات بعد سقوط نظام صدام حسين. ابتسم وقال:"لا تسقطوا على الواقع العراقي السيناريوهات اللبنانية. هذه الأمراض ليست موجودة عندنا. اللبننة غير واردة. مشاكلنا من قماشة أخرى". طمأنني كلامه على رغم معرفتي المتواضعة بوحشة التاريخ العراقي ووحشية بعض اللاعبين على صفحاته. قبل أيام اتصلت بالصديق العراقي فأجاب:"للأسف نحن ننحدر نحو الجحيم. المأساة اللبنانية ستبدو أشبه بلعب الأطفال حيال ما نتجه اليه. سجّل عندك. إذا وقع الطلاق الكامل بين العراقيين فإن عدد الجثث لن يقل عن عدد أشجار النخيل". مع قهوة الصباح أمس تجرعت سم رسالة مشرق عباس، زار زميلنا المشرحة وسمع ما يقطع نياط القلب، ورأى ما يجرح العين والقلب. راودتني رغبة في حجب الرسالة عن قراء"الحياة". إنها أكبر من القدرة على الاحتمال. لكن حين رحت أتابع وكالات الانباء وجدت الرسالة الجارحة بالغة التعبير عن الواقع العراقي. قالت الأنباء ان الشرطة عثرت أمس على 45 جثة مجهولة الهوية وان بضع سيارات مفخخة انفجرت في بغداد وكربلاء. وسرعان ما جاءت جرعة السم الثانية فقد كشفت صحيفة"ذي صنداي تايمز"البريطانية تفاصيل مرعبة عن ظروف قتل الصحافية العراقية أطوار بهجت، مراسلة قناة"العربية"بعد خطفها في 22 شباط فبراير الماضي. التقطت كاميرا هاتف نقال مشهد القاتل يذبحها ويقطع رأسها. ونقلت الصحيفة ان القتلة استخدموا المثقاب في أنحاء مختلفة من جسمها. هذا فظيع. الأشد فظاعة هو اننا نكاد نعتاد على العراق المضرج بدم أبنائه. نحصي عدد القتلى بحياد ووقار. نشاهد الصور كأنها تلتقط في كوكب آخر. كأننا نكاد نسلم باندفاع العراق الى نهاياته. كأننا نسلم بالعراق الشيعي والعراق السني والعراق الكردي. كأننا ننسى ان العراق لا يستطيع ان ينتحر لوحده. ضد القتلة الصغار الذين يمارسون الفرز السكاني ويوزعون الجثث. ضد"فرق الموت"والسكاكين التي تنهال على اللحم العراقي. ضد القادمين من التارات والاحقاد لاغتيال الوطن والشريك في الوطن. ضد الصمت والعجز. ضد من حوّلوا العراق مشرحة تختلط فيها الجثث بدموع الباحثين عن ذويهم. ضد الذين يتلطون بشعارات كثيرة ليطلقوا خفافيش الليل مسلحة بالسكاكين المسنونة والعيون المسنونة. ضد كل هؤلاء نرفع صرخة احتجاج وتحذير. يجب منع العراق من استكمال انتحاره. الآن وقبل فوات الأوان يجب وقف المجازر الجوالة والقتلة الجوالين. إذا لم يتسع العراق لكل أبنائه فلماذا تتسع بلدان أخرى لكل أبنائها؟ ان موت العراق سيكون أول الموت العربي الكبير.