المسألة عادية جداً وبسيطة. عثرت الشرطة العراقية على وظيفة جديدة. كل صباح تتولى دورياتها جمع الجثث التي أنجبها الليل. والمشهد بات تقليدياً. الجثث مربوطة الأيدي ومعصوبة العينين مع رصاصة في الرأس. احياناً يخطر ببال القاتل ان يزيّن الجثة ببعض التشويهات وآثار التعذيب. لا يستأثر حي معين بانتاج الجثث. يمكن العثور عليها في منطقة الشعلة والصدر والزعفرانية وجسر ديالى والدورة. يمكن العثور عليها ايضاً في الاعظمية او الكاظمية. بقية المناطق لا تنقصها القدرة على الانجاب. الأمر يتعلق بالادوار والمواسم. تجمع الشرطة الجثث وتنقلها الى مشرحة بغداد. وحرصاً على الدقة نوضح ان اعلان المشرحة عن حصيلة ليلة من القتل لا يتضمن بالضرورة كل من قتلوا. فبعض القتلة يتلذذون بحرمان ذوي القتلى حتى من جثثهم. ثم ان الأعداد لا تشمل بالتأكيد تلك الجثث التي تتطاير في وضح النهار حين يتقدم شاب مع حزامه الناسف لينفجر في سوق او مطعم او مركز تطوع. ولا تشمل ايضاً الجثث التي تُوارى سريعاً حين تنفجر سيارة مفخخة بعرس او جنازة. لن نتوقف طويلاً عند المسؤولية عن اطلاق موسم الجثث في العراق. مسؤولية الاحتلال اكيدة خصوصا بعد قراره حل الجيش العراقي. لكن ذلك لا يلغي الدور الريادي الذي يلعبه الزرقاوي بإصراره على استهداف اجهزة الأمن ومنعها من التقاط الانفاس. تجدر الاشارة هنا الى المساهمة البارزة للقوى التي اخذت على عاتقها مهمة اجتثاث البعث بممارسات من قماشة ممارسات صدام نفسه. لا بد ايضاً من التنويه بالأيادي البيضاء ل"فرق الموت"خصوصا حين ترتكب جرائمها بالزي الرسمي حرصا على احترام الشرعية. ولا يمكن اغفال المجموعات المتعصبة من كل اتجاه خصوصا في مواسم الغليان الطائفي والمذهبي. تصل الجثث الى المشرحة وبعضها بلا أوراق ثبوتية. تصنف في خانة الجثث المجهولة الهوية. وبسبب ضيق المكان تحشر وتختلط بانتظار مجيء من يسأل عنها ويتعرف إليها ويأخذها. لا يمكن السماح للجثث المجهولة الهوية بالإقامة طويلاً في المشرحة لأن الليلة التالية ستحمل المزيد. وهكذا يتم اعطاء كل جثة رقماً قبل ارسالها الى مدافن الدولة. اكتب عن هذا الموضوع لاعتقادي بعلاقته بمستقبل العراق ومستقبل الأمة معاً. خير دليل على الوضع العربي هو ان الزملاء المعنيين بالشأن العراقي ينهمكون كل مساء بالتدقيق في عدد القتلى والجثث ثم يلجأون الى تصحيح العدد كلما وصلت انباء وجبة جديدة. اما اذا اتصلت بالزملاء في مكتب بغداد تسألهم عن التطورات فيردون بسرد انباء الاجتماعات والمناورات ويختمون الحديث بعبارة عادية:"ولدينا اليوم 35 جثة". وغالباً ما انهي المخابرة قلقاً على الزملاء وبغداد وعلى أمة تقبل ان تتحول بغداد مصنعا للجثث. كلما تحدثت الأخبار عن العثور على جثث مجهولة الهوية يمر ببالي ان لصاحب الجثة أماً تنتظر عودته او زوجة ستقيم مع حسرتها او طفلاً سيعثر على من يدعوه لاحقاً الى الثأر لأبيه وهكذا يتجدد موسم الجثث. غلبتني الحشرية الصحافية امس. اتصلت بالمشرحة في بغداد وتحدثت الى المسؤول عنها الدكتور قيس حسن الذي اكد ان المشرحة تستقبل يوميا ما بين 35 و50 جثة نصفها مجهول الهوية. قال ان المشرحة ليست معدّة لأحداث من هذا النوع وليست مجهزة لاستقبال اكثر من عشر جثث. وروى لي قصة الجثث والأرقام ومدافن الدولة. تحدث عن مأساة انسانية غير مسبوقة وتمنى ان يكون هناك"بصيص أمل". ألمني الكلام وألمتني الأرقام فكتبت هذا المقال لخوفي من أن تكون الجثث المجهولة الهوية في مشرحة بغداد هي جثة المستقبل العربي.