ماذا نفعل بذلك النهار حين يهاجمنا مجدداً وتستعيد الشاشات وقائعه؟ ها هو يرجع مثقلاً بالمخاوف والأسئلة وبآلاف الجثث. التاسع من نيسان ابريل 2003 والمسرح بغداد. لهذه المدينة رصيد لا ينضب لدى العربي. تاريخها شديد الحضور في تاريخه. ومستقبلها سيترك بصماته على مستقبله. لا يستطيع العربي الاستقالة من بغداد وان كره حاكمها. يرى ظلمها عابراً وحبها مقيماً. انها في قلبه أكثر من نهر ونخيل وقصائد. يذكر العربي ذلك النهار. هوى تمثال"السيد الرئيس القائد". ساهمت مدرعة أميركية في اقتلاعه. تجرأ عراقيون اعتقلهم الخوف عقوداً. اقتلعوا التماثيل وانهالوا على الصور. جرح واحد في هيبة المستبد لتحويله حطام مستبد. لكن تلك الصور صارت من الأرشيف. لا جدوى من الشماتة بالفتى الذي استولى على القرار والقصر والحزب والجيش والشعب وحوّل عاصمة الرشيد عاصمة للخوف. لا جدوى من الشماتة بالسيد القائد الواقف في قفص الاتهام. ولا جدوى ايضاً من هجاء الاحتلال وخطاياه والتذكير بحرب تفتقر الى غطاء الشرعية الدولية وبحرب لم تكن ضرورية. الاحتلال لم يكن يوماً جمعية خيرية والآلة العسكرية الاميركية لم ترسل في مهمة انسانية. ومن السذاجة مطالبة المحتل بزرع الديموقراطية أو صيانة الوحدة الوطنية. بعد ثلاثة أعوام من حق العربي ان يسأل: من سقط في ذلك اليوم وماذا سقط؟ صدام حسين أم بغداد؟ النظام العراقي أم العراق؟ يعرف العربي الجواب فبعض المشاهد العربية الطازجة أشد خطورة وايلاماً من مشهد سقوط بغداد. يسأل العربي نفسه: لماذا حين يسقط المستبد سيد التماثيل تتداعى الدولة وتتوزع ركاماً وتفوح رائحة الطلاق؟ ولماذا يذهب الوطن نفسه حين يذهب الرجل الصارم الظالم الممسك بالاعناق والأرزاق والاختام؟ أعرف العراقيين وأعرف دمهم الحار. لكن الصراحة تفرض ان نقول ان الاحتفال بفشل الاحتلال وبرنامجه لا يعفينا من الالتفات الى الفشل العراقي الصارخ. يستطيع الاحتلال إيذاء العراق، لكن قتل العراق أو اغتياله لا يمكن ان يتم إلا إذا انزلق العراقيون الى الفتنة، والمقدمات مثيرة للحزن والرعب معاً. لا يستطيع الاحتلال شطب العراق. العراقيون وحدهم يستطيعون شطبه. من السهل التلطي وراء الأعذار. تماماً كما فعل اللبنانيون ذات يوم. من السهل اتهام الاحتلال لكن ماذا عن هذا البحر من التصفيات والاغتيالات و"فرق الموت"وتبادل الاتهامات بين العراق الشيعي والعراق السني والعراق الكردي؟ وحين تستمع الى أخبار الجثث المجهولة الهوية والاعتداءات على المساجد والحسينيات وبرك الدم الجوالة تسأل أين ذهب العراق؟ كان على من اعتبر نفسه منتصراً لحظة سقوط التمثال أن يقدم جزءاً من انتصاره لمصلحة بقاء العراق. وكان على من اعتبر نفسه مهزوماً أن يتقبل بعض خسارته لترميم البيت العراقي. ولو تم تبادل هذه التنازلات ووضعها في رصيد الوطن، لما تمكن الاحتلال من التلاعب بالقوى السياسية، ولما تمكن الزرقاوي من اضرام نار الفتنة. في ذكرى سقوط بغداد، يحق للعراقي والعربي أن يسألا: هل يحق للقوى الطائفية والحزبية والسياسية أن تواصل التنازع على الحصص والمواقع، فيما يفيق العراق يومياً على عشرات الجثث وسط ازدياد الفرز السكاني واستعداد المناطق لإشهار خطوط التماس؟ لا شك أن غالبية العراقيين تعارض استكمال مراسم تشييع العراق، لكن ما يجري حالياً لا يعد بغير ذلك. يوم سقوط بغداد راودتنا رغبة في عقد المقارنة مع سقوط جدار برلين ثم اكتشفنا أن الأمر أخطر. وقبل أسابيع راودتنا رغبة المقارنة بين انفجار العراق وانفجار يوغوسلافيا، وها نحن نكتشف أن الأمر أخطر بسبب غياب صمامات الأمن في العراق والمنطقة معاً. الوقت ينفد وتفادي الهاوية يحتاج الى صرخة الحكماء وتبادل التنازلات والتطمينات قبل أن ينزل تقاتل العراقيين ببلادهم ما هو أدهى من ارتكابات الاحتلال. لم يعثر الأميركيون على أسلحة الدمار الشامل في العراق، لكن الفتنة سلاح دمار شامل للعراق والمنطقة معاً، فما يفعله عراقيون بعراقيين هذه الأيام أشد هولاً من مشهد سقوط بغداد.