كان سائق التاكسي يضحك ملء فمه، وهو يستمع إلى مقطع من مسرحيّة زياد الرحباني"فيلم أميركي طويل"تبثّها إحدى الاذاعات اللبنانيّة. كأنّه وحده في السيارة التي تجوب شوارع بيروت، تلك الليلة، لا يعبأ بنا وهو يتابع المواجهة بين"إدوار""المعقّد من المحمودات"، ورشيد"ملك الساحة اللبنانيّة على بياض". بعد أكثر من ربع قرن على تقديمها، ما زالت هذه المسرحيّة تعبّر عن المزاج العام. "الحركة الوطنيّة"سكّرت أبوابها من زمان، واللعبة السياسيّة انقلبت معادلاتها مراراً، وتعاقبت الاحتلالات والحروب والمآسي ومحاولات استعادة السلام الأهلي الهشّ، حتى"حلفاء الأمس المزعجون"آنذاك، وقد جنّنوا ممثّل الحركة الوطنيّة في المسرحيّة، إذ وجد نفسه أمام تناقضات لا يمكن حلّها، تركوا مكانهم اليوم لأسياد آخرين وأبطال جدد. لكن"إدوار"ما زال على حاله، و"رشيد"المواطن العادي الذي هزّته الحرب، فإذا به يواجه وحده كلّ قهر العالم... ما زال"الزعما عم يستغلّوا هالشعب"، والطائفيّة والبرغل والمواطن الذي"بيفرد"و"رأسه بيعكف".... باختصار ما زال البلد يشبه بشكل مدهش تلك المصحّة العقليّة الكبيرة كما تخيّلها، العام 1980، الابن الرهيب للمؤسسة الرحبانيّة. زياد الرحباني في كلّ مكان. في الصحافة وعلى أمواج الأثير "صوت الشعب"تحديداً... في أغنيات وحوارات وتعليقات طبعت الذوق العام، ودخلت اللغة اليوميّة المتداولة. وفي مشاريع مرتقبة، مع فيروز أو من دونها، مع لطيفة وسواها. وحيثما يكون زياد يكون"الرحابنة"... هناك دائماً عند زياد شيء من الرحابنة. شيء أساسي حتماً، يرافقه في مشروعه البديل، القائم على تجاوز الصورة المجرّدة، الطوباويّة إلى أقصى الحدود، واللغة المحنّطة، الباردة، والأوهام الغيبيّة ل"الأيديولوجيا الرحبانيّة"أو..."الأيديولوجيا اللبنانيّة"لا فرق! ولعلّ مرحلة الترقّب والقلق واعادة ترتيب الأوراق التي تشهدها الساحة السياسيّة، تعطي أهميّة مضاعفة للندوة التي احتضنتها، أواخر الشهر الماضي، الجامعة الأميركيّة في بيروت، بمبادرة من أكرم الريّس برنامج أنيس أنيس المقدسي للآداب، تحت عنوان"فيروز/ زياد 1973 - 2006، في شي عم بيصير...". فقد تعاقب باحثون واختصاصيّون على احدى منصّات "وست هول"، محاولين رصد الظاهرة الرحبانيّة، من خلال العلاقة بين زمنين وعالمين: الأوّل عالم الرحابنة الغيبي والشاعري، والثاني عالم زياد الواقعي والفجّ والعبثي الساخر من كلّ شيء. وبينهما تقف فيروز، صلة وصل غريبة، تجمع التناقضات كلّها. تنتقل من"شك الالماس"إلى"هدير البوسطة"، فإذا بها، بتعبير أحمد بيضون "قمر الصباح الأزرق يغنّي بلايا آخر الليل"! سلّطت الندوة الضوء على تلك العلاقة المعقّدة بين فيروز وزياد، بين المؤسسة الرحبانيّة ووريثها اللدود من خلال نقده الجذري لأسسها وخلفياتها الفكريّة ومقارباتها الجمالية. شارك في الندوة إضافة الى وزير الثقافة طارق متري كتّاب وفنّانون وباحثون بينهم أحمد بيضون ورشيد الضعيف ومحمد أبي سمرا وحنان قصاب حسن وماري إلياس وجورج عربيد، وفواز طرابلسي الذي وضع مؤلفاً مرجعياً، يمعن في نقد المؤسسة الرحبانيّة وتفكيكها، بعنوان"فيروز والرحابنة - مسرح الغريب والكنز والأعجوبة"دار الريّس. ولعلّها المرّة الأولى التي تكرّس فيه مؤسسة أكاديميّة ندوة للعلاقة بين زياد وفيروز. زياد وريث المؤسسة الرحبانيّة التي ينقضها ويكمّلها في آن، عبقريّته في التقاط لغة الشارع، واعادة توظيفها في إطار مغاير يقلب معادلات السائد، ويقوم على"شعريّة اليومي"، فإذا بنتاجه مزيجاً من الواقعيّة والغرابة، من الرومانسيّة والسخرية التي تلامس حدود العبثيّة وزياد أيضاً امتداد لمدرسة سيّد درويش في بناء فنّ شعبي، من الناس وإليهم، ومخاطبة وجدانهم والتعبير عن مشاعرهم وتطلعاتهم... يتعامل مع السائد بحذاقة، للانقلاب عليه ورفضه وتجاوزه ونقد الأوضاع القائمة. هذا الفنان المشاكس والانقلابي، نقل فيروز - الرمز الوطني الذي يلتقي عنده كلّ اللبنانيين - من لغة إلى أخرى، من صورة إلى صورة مناقضة، أنزلها من برجها العاجي إلى لغة الشارع المباشرة، فولدت على يده من جديد... وعاشت شباباً ثانياً وخاطرت بالابتعاد عن جزء أساسي من جمهورها القديم. وزياد يعبّر عن مشاغل الشباب. كل التجارب الغنائيّة الجديدة مدينة إليه بشكل من الأشكال. وهذا فنّان المتعدد الوجوه ممثّل ومؤلّف مسرحي، كاتب كلمات ومغن وملحّن وعازف بيانو، هو موسيقي أوّلاً، جذوره في الارث الرحباني وفروعه في مكان ما بين الجاز اللاتيني والموسيقى الكلاسيكية... وربّما لم يقدّم زياد الرحباني حتّى اليوم الموسيقى التي يتمنّى تأليفها.