يدور كلام كثير على انعطاف أميركا الجنوبية يساراً. ولكن قلة لاحظت ان ثمة"يسارين"، وليس يساراً واحداً، في المنطقة. وعلى رغم جذوره الراديكالية، تعلّم اليسار الاول، إذا صح التعبير والترتيب، من أخطاء الماضي، وغدا منفتحاً وتقدمياً وراشداً. وحاملة لواء هذا اليسار هي ميشال باشيليه رئيسة تشيلي الجديدة. أما اليسار الثاني، فلم ينفك شعبوياً ومتهوّراً ومنغلقاً. وهوغو تشافيز، رئيس فنزويلا، هو علم هذا اليسار. وعوض القلق من صعود اليسار على المجتمع الدولي احتضان اليسار الراشد. فأميركا الجنوبية تحتاج إليه. وإذا لم يُساند هذا اليسار، نجح اليسار المتهور في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. والحق أن التمييز بين هذين اليسارين يسعف أميركا الجنوبية على رسم توجّهاتها، وإنهاء"مئة عام من العزلة"، على ما كان ليقول اليوم فيها الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز. ومع انعطاف أميركا الجنوبية يساراً، انقلب اليساريون على عقدين من الزمن. وخالف بعضهم مبادئ الماضي الصلبة والثابتة. فأجرى إصلاحات في السوق الحرة، وتفاقم على خطوات أخرى مع الولاياتالمتحدة، ومضى قدماً على تعزيز الديموقراطية التمثيلية. وهذه الإجراءات هي رد على سياسات آفلة أكثر منها سياسة جديدة ومبتكرة. ولكن طابع"الردة"، أو الارتداد، لا ينفي واقعية الاجراءات. ومنذ فوز هوغو تشافيز في انتخابات فنزويلا الى يومنا، واحتمال بلوغ أندريس مانويل لوبيز أوبرادور سدة الرئاسة بالمكسيك، في تموز يوليو، اجتاحت زعامات وأحزاب وحركات"يسارية"السلطة في بلدان أميركا الجنوبية. فبعد تشافيز، حكم لولا في البرازيل، ثم نيستور كيرشنر في الأرجنتين، وفاسكيز في الأورغواي، وأخيراً إيفو موراليس في بوليفيا. ومرد هذا الميل الى نوعين من اليسار هو سقوط الاتحاد السوفياتي. فانهياره ألغى"وصمة"التبعية له، وبدد، تالياً، تهمة الولاياتالمتحدة أي نظام يميل يساراً، بالسوفياتية. والى"اندثار"الاتحاد السوفياتي، أسهم غياب المساواة والتوزيع العادل للثروات والفقر وتدني الدخل وانسداد الفرص، في انتصارات"اليسار". فغياب المساواة إذا قرن بإصلاحات ديموقراطية، أفضى الى اليسار. وسرت هذه المعادلة بأوروبا الغربية الى الحرب العالمية الثانية، وهي تسري اليوم بأميركا الجنوبية. وركب اليسار موجة نشر الديموقراطية العارمة. فهي السبيل الوحيد إلى السلطة. ونجح في مساعيه، واستند الى البنية الاجتماعية والسكانية والإثنية للمنطقة. ولم ينتبه المراقبون الى ظهور نوع جديد من اليسار. وعزز هذا الخطأ في التقدير أن انهيار الاتحاد السوفياتي لم يتزامن مع انهيار نظيره في أميركا الجنوبية، كوبا. ومعيار التمييز بين اليسارين، واتجاهاتهما، هو أصول الحركات التي تسلمت السلطة، وجذورها. فثمة يسار ولد في حضن الأممية الشيوعية والثورة البولشيفية، على غرار غيره من الحركات اليسارية في العالم. ففي كوبا، أولاً، ثم تشيلي وأورغواي والبرازيل والسلفادور، كسبت الثورات تأييد الناس، وأسهمت في قيام حكومات"جبهة عريضة"وحكومات"وحدة وطنية". ولم تخلُ العلاقات بين هذه الانظمة من التوتر. ولا شك في أن أصل اليسار بأميركا الجنوبية غريب. ولطالما غلبت التيارات الشعبوية العسكرية والانقلابية في هذه المنطقة، واستولت على السلطة. وكان معظم مؤسسي دول اميركا الجنوبية من بناة الطبقات العاملة. فأدوا قسطهم من العلى لأممهم وفازوا باحترام خلفائهم. والشعبويون هؤلاء هم دعاة يسار سلطوي معادٍ للشيوعية. ويرون السياسة والقانون أداة استيلاء على السلطة، واستئثار بها. ويغفلون عن أن السلطة هي أداة صنع السياسة. ومنح الشعبويون الفقراء تقديمات، على غرار ما فعل بيرون بالأرجنتين، وفارغاس بالبرازيل، وكارديناس بالمكسيك، وأمموا قطاعات اقتصادية كثيرة. وسوغ الزعماء الشعبيون إجراءاتهم تسويغاً سطحياً يفتقر الى إيديولوجيا متماسكة الوطنية والتنمية الاقتصادية، وبراغماتياً. ونجح هؤلاء في تعزيز سلطتهم، وسيطروا على الموارد الطبيعية وعوائد الاحتكارات. ووزعوا أموالاً على"عراة الصدور"الفقراء، ولم يفرضوا ضرائب على الطبقة الوسطى. وهكذا، أصبح الإنفاق العام، وغير المقيد، سياسة متعمدة. وبينما جدد اليسار الشيوعي والاشتراكي والكاستروي،"بناء"نفسه، وأقر بأخطائه وأخطاء نظرائه، بقي اليسار الشعبوي على حاله، صادقاً مع نفسه. واما اليسار"الجديد"أو"المتجدد"بتشيلي والأورغواي، وإلى حد ما بالبرازيل، فانتهج سياسة اجتماعية - تربوية، والتزم مكافحة الفقر، وتأمين العناية الصحية والمسكن في إطار سياسة سوق مرنة. ويبدو هذا اليسار مناسباً لأميركا الجنوبية. فهو بديل حيوي وعاقل عن اليسار المتهور الذي يحمل تشافيز لواءه. ويقود اليسار المتهور بلاده الى الهاوية. فمعدلات الفقر والبطالة والتضخّم مرتفعة. وهو يمنح كوبا، وبعض بلدان بحر الكاريبي، النفط منحة وهبة. ويسدد ديون الأرجنتين، ويشتري أسلحة من أسبانيا وروسيا، وينازل بوش بين الفينة والفينة، ويسعى الى تحالفات نووية مع إيران. وسياسة تشافيز هي خير مثال على اليسار الشعبوي. ونتائج اليسار الشعبوي بأميركا الجنوبية غالباً ما انتهت الى كوارث ومآسٍ. عن خورخيه كاستانييدا وزير خارجية المكسيك السابق وأستاذ بجامعة نيويورك،"فورين أفريز"الأميركية، 4-5/2006