معروف أن من المستحيل على فيلم واحد ان يصنع ثورة سينمائية - مع بعض الاستثناءات النادرة في تاريخ الفن السابع اسماؤها"المواطن كين"وپ"الدارعة بوتمكين"وپ"يوم القيامة الآن"-، ومع هذا ثمة أفلام علامات... أفلام تنطلق منها حركة تجديدية. وغالباً ما لا يكون هذا الأمر ملحوظاً في البداية حين يعرض الفيلم، مهما كانت قوته ومهما كان من شأن أهميته. فالمسألة هنا تشتغل انطلاقاً من مفهوم التراكم، حيث يبدأ فيلم أول، حركة تغييرية، وتأتي أفلام تالية له من النسغ نفسه لتفرض حضورها وتكمل مسيرته حتى يتكون التيار، وغالباً في وقت يكون تيار آخر تال له، قد بدأ يرتسم في الأفق. وفي أيامنا هذه حين يؤرخ الباحثون والنقاد للثورة السينمائية الكبرى التي عرفتها هوليوود في سنوات السبعين وينسبونها الى تيار"أصحاب اللحى"كوبولا، سبيلبرغ، سكورسيزي، لوكاس ودي بالما، كي لا نذكر سوى هؤلاء، ينسون بالطبع سينمائيين عدة كان لا بد من وجودهم للتمهيد لتلك الثورة، من أمثال سيدني بولاك وجون فرانكنهايمر... وخصوصاً آرثر بن. وهذا الأخير الذي يبدو، في زمننا هذا مهملاً بعض الشيء من جانب نقاد السينما الأميركية ومؤرخيها، هو - في اعتقادنا - أحد أوائل الذين أشعلوا تلك الشرارة التي سرعان ما بدلت هوليوود كلها. وحسبنا ان نذكر فيلم"بوني أند كلايد"لآرثر بن حتى يتضح ما نقوله كل الاتضاح. خصوصاً أن هذا الفيلم لا يزال حياً، يشاهد كفيلم شديد المعاصرة حتى وإن كان كثر ينسون اسم مخرجه. إنهم بالأحرى يتذكرون ان الفيلم أعطى وارين بيتي وفاي دانواي، أجمل دورين لعباهما في تاريخهما السينمائي، بل انه أطلق فاي دانواي تلك الاطلاقة التي نعرف. ومع هذا قد يصعب على المتفرج غير المهتم بالتوغل في عمق تاريخ السينما الأميركية، بل حتى في عمق تاريخ الذهنيات الأميركية أن يدرك تماماً الأهمية التي تسبغ على هذا الفيلم. فللوهلة الأولى أمامنا هنا حكاية مغامرين، لصّين أفّاقين، من نوع سينما قطاع الطرق التي كانت هوليوود تتقن انتاجها في ذلك الحين. ولدينا مناخات تشبه مناخات أفلام رعاة البقر أو شخصيات هامشية من نوع لم يفت هوليوود أن تقدمه في أفلامها الأكثر جمالاً وصدقاً. ولدينا حبكة، وحكاية غرام، ودم ورصاص... الكثير من الدم والرصاص. ولكن بعض المال أيضاً، ذلك ان اللصين الذين يتحدث عنهما هنا، تخصصا أساساً في سرقة البنوك. إذاً: ما الجديد هنا؟ قد يتساءل ذاك الذي يتابع السينما الأميركية منذ زمن بعيد وسبق له أن رأى هذا كله، مجتمعاً أو متفرقاً في عشرات، إن لم يكن في مئات الأفلام الهوليوودية من قبل. ما الجديد حقاً؟ الجديد هو أن آرثر بن، مخرج الفيلم، قدم شخصيات خاسرة مهزومة. قدم أبطالاً - متضادين، علماً أن السينما الأميركية كانت دائماً - مثل أختها الستالينية ويا للغرابة - سينما الأبطال الإيجابيين المنتصرين. سينما النهايات السعيدة وسينما الحث على العمل والفضيلة ومكارم الأخلاق. فلا ذهنية السينما الأميركية وجمهورها ولا ذهنية الرقابة كانت، في أميركا تتحمل نهايات يهزم فيها الأبطال أو يموتوا. فإن كان هذا مصيرهم، تبعاً للأحداث، لا بد من"فعلة"تعطي أملاً أو تصميماً. ولنتذكر هنا سكارليت أوهارا في الفيلم - العلامة"ذهب مع الريح"، حين، إذ تخسر كل شيء في النهاية تحت وقع الحرب الأهلية، تقف شامخة متمسكة بأهداب الأمل واعدة نفسها وآلها بغد أفضل. الخاسرون الحقيقيون لا مكان لهم في نهايات أفلام هوليوود، حتى"بوني أند كلايد". وحتى"بوني أند كلايد"كان من الصعب جداً على فيلم أميركي أن يطلب من متفرجيه التعاطف مع مجرمين ولصوص. وخصوصاً حين يطاولهم العقاب الحتمي المأخوذ مبدأه، ليس من ذهنية السينما الأميركية هذه المرة، بل من واقع الحياة. فإذا كان آرثر بن قد"قتل"بطليه في مشهد أخير، لعله أعنف وأقوى ما صورته السينما حتى ذلك الحين، فإنه لم يتوخ معاقبتهما على ما اقترفا على نمط الجزاء من نوع الفعل، بل توخى تصوير نهايتهما كمحصلة للعبة غادرة. لولا الغدر الشرير لكان في إمكانهما ان يعيشا ويواصلا حياتهما لفترة أخرى من الزمن. لكن نهايتهما في الدقائق الأخيرة من الفيلم كانت محتمة هنا: كل الفيلم كان يقود اليها. كان الاثنان بوني وكلايد يعيشان معاً حال انتحار مستديم. ومن هنا ليس مصيرهما عقاب إلهي من النوع الذي يطاول الشرير، بل قدر إرادي هو مصير كل طموح متطلع لا يأبه بالحياة الخاوية ويرغب في أن يحول حياته الى شيء ما. وما سياق فيلم"بوني أند كلايد"سوى سرد لهذه السيرورة. فالاثنان، المرأة والرجل، على رغم السرقة والقتل، على رغم كل شيء لا يقدمان لنا هنا كمجرمين، بل ككائنين يمارسان السرقة كنوع من الفنون الجميلة، كنوع من تحقيق المرء ذاته عبر إنجاز ما يريد إنجازه. الطموح البشري دافعهما الى هذا. والحب دافع آخر. والمشاهد يتعاطف كلياً مع طموحهما ومع حبهما. الى درجة انه، حتى وإن كان يعرف حتمية نهايتهما - طالما ان حكاية الفيلم مأخوذة من سيرة واقعية لمجرمين أميركيين - فإنه في أعماقه يتمنى لو تكون النهاية غير ما كانت، بل ان في إمكان المرء أن يراهن على ان احداً من المتفرجين ما كان ليقبل توبتهما لو تابا وقررا ان يسلكا درب الصلاح. قد يقول قائل هنا ان مثل هذه الأمور موجودة الآن بوفرة في السينما الأميركية وغيرها. وهذا صحيح. ولكن لا ننسين هنا ان"بوني أند كلايد"حقق في العام 1967، يوم كانت الذهنيات الكونية، التي أنتجت في الأعوام التالية ثورات الشبيبة والطلاب، قيد التغير لم تنجز تبدلاتها الجذرية بعد. ومن هنا يمكن الافتراض ان فيلم"بوني أند كلايد"الذي يروي حكاية مجرمين تعرفا على بعضهما البعض فأحبها وأحبته، ثم خاضا سلسلة مغامرات مع آخرين وضد آخرين، وسرقا بنوكاً وأذلاّ رجال شرطة وعبثا بكل القيم، كان واحدة من الإشارات الأساسية التي دلت على نوعية التبدل الكوني الذي كان يحدث في عالم خرج منذ عقود من الحرب العالمية الثانية من دون ان يعطي شبيبته أي أمل. وفي يقيننا، في هذا السياق، أن فيلم"بوني أند كلايد"كان واحدة من المساهمات الأميركية الرئيسة، - وحرب فيتنام مشتعلة تثير ثائرة شبيبة الولاياتالمتحدة - في تلك الثورة التي كان الفن السينمائي والغنائي جزءاً أساسياً منها. ولربما كانت مشكلة هذا الفيلم الأساسية انه جاء في وقته تماماً، بل بالأحرى أبكر من وقته، ليقطف التالون له ثمرة ما قدم من جديد. ومع هذا لا يمكن القول ان"بوني أند كلايد"قد ظلم، ولا حتى ان مخرجه آرثر بن المولود العام 1922 من حقه ان يشكو. فالفيلم حقق في حينه، حتى على صعيد الرواج السينمائي - التجاري الخالص، نجاحاً كبيراً عدا عن انه - وكما أشرنا - لعب دوراً أساساً في مصير نجميه. إذ بفضل ذلك النجاح، صار آرثر بن ولو لحين علماً من أعلام السينما العالمية، هو الذي حقق أفلاماً صارت بدورها علامات، لعل أهمها - بعد"بوني أند كلايد"-"المطاردة"الذي سيوجه من الاتهام الى عنصرية الأميركيين وعنفهم ما عجزت عشرات الأفلام عن قوله.