سبق أن أعدت أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية تقديرات للاحداث المتوقع حدوثها بعد رحيل ياسر عرفات, وأعتبرت أن موت عرفات سيوجد حالاً من الفوضى العارمة في مناطق السلطة الفلسطينية التي ستنهار بدورها بسبب الحرب على التركة. في المقابل، فإن حركة"حماس"ستستوفي مقومات القوة اللازمة للسيطرة على مقاليد الامور، وسوف تنشأ زعامة جديدة"تكنس"اتفاقات أوسلو... ووفقاً لهذه التقديرات الاستخباراتية، أعدت حكومة تل أبيب ترسانة من الخطط للحؤول دون سيطرة"حماس"على دفة السفينة الفلسطينية المثقوبة, والمبحرة من دون شراع أو قبطان حتى لو اقتضت الضرورة السياسية والأمنية تنفيذ عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة. وقد تمزقت جثة أوسلو لاحقاً تحت جنازير"الميركافاه"، وفوق رفاتها امتد الجدار العازل محولاً الضفة الغربية اشلاء والدولة الفلسطينية ملفاً مطوياً في خزانة هيئة الأمم. وبعد عزل عرفات وحصاره في مقر المقاطعة، أوصت الاستخبارات الاسرائيلية بالتخلص من إرث عرفات والحرس القديم ومنظمة التحرير، فيما كانت مروحيات"الاباتشي"تحصد أرواح قيادات حماس التاريخية. الى ذلك، أوصى حاخامات وشخصيات أكاديمية يهودية بالتخلص من الذاكرة الفلسطينية، وتمكين الجيل الجديد من السيطرة على الدفة وتحديد الاتجاه له بحسب مؤشر البوصلة الاسرائيلية وأحوال المد والجزر الاسرائيلية، بالاضافة الى فتح قنوات مع هذا الجيل الذي يدين بالولاء للقبيلة والجماعة. وفي مرحلة لاحقة اتفق على تجاوز هذا الجيل الجديد وتوقيع اتفاقية ثنائية تاريخية مع الولاياتالمتحدة لترسيم الحدود الشرقية للدولة العبرية. التقديرات الاسرائيلية لا حصر لها، وفي اسرائيل بالذات يولون اهتماماً كبيراً بالدراسات الصادرة عن المراكز والمعاهد البحثية المستقلة أو التابعة للأجهزة الأمنية. وسواء صدقت هذه التقديرات أو أخطأت , فقد غابت الحكومات والجماهير العربية عن هذه التقديرات. لقد خشيت اسرائيل من أن تمتد شرارة الانتفاضة الفلسطينية الى الجماهير العربية, وتخوفت الولاياتالمتحدة الاميركية من ردة فعل الجماهير العربية حينما كانت القاذفات والمقاتلات الاميركية تضع ملامح العراق الديموقراطي الجميل في آذار مارس 2003! بيد أن رد فعل الجماهير العربية كانت عاطفية وموقتة وغير مؤثرة، وتم مواجهتها بالهراوات والجنازير وپ"الكرابيج"... لذلك تم إسقاطها من الحسابات الإسرائيلية والاميركية، وتحول المواطن العربي الى جواد خاسر خارج الرهان. والاخطر من ذلك ان الجماهير العربية سقطت من حسابات الشعب الفلسطيني الذي كان يجد في الشعب العربي عمقاً وسنداً له. بيد أن السند المرتجى انفرط من حوله كما تنفرط السبحة والموت يجوس بين حارة الياسمين ومخيم جنين في ملحمة"السور الواقي"، وترك وحيداً ليواجه مصيره المجهول. ان الشعب الفلسطيني أحوج ما يكون الى لمسة أخ تمد له عبر الاسلاك الشائكة وتسانده في المحن والشدائد, اكثر من الأموال والدواء وأكياس الطحين, لم يعد الفلسطيني يكترث بالموت الآتي من كل مكان... الأبواب توصد في وجوهنا، والنوافذ وقذائف المدفعية الثقيلة وصواريخ"الهلفاير"ودانات الدبابات تلاحقنا عبر الأزقة والشوارع. والفضائيات تجهد كي تنزع كوفيتنا وتحولنا شعباً متسولاً، وليس شعباً مناضلاً. نحن في حاجة الى صمود معنوي، وليس الى صمود غذائي أو تصفيق حار فيما نحن نصعد درجات المقصلة. لقد غرست في دروبنا حقول الاشواك وأصبحت نعالاً لنا، وأغمدت في صدورنا وظهورنا كل السيوف السمومة، فنبتت ضلوعاً لنا ولم نمت كما شاءت لنا التراجيديات العبرية المعدة لنا. علاء الغرباوي - غزة - بريد الكتروني