لم يحدث في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني الحديث، تحديداً منذ خمسة وثلاثين عاماً، أن تحول ياسر عرفات الى مادة للجدل في الساحة الاسرائيلية كما حصل خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، حظي فيها الرئيس الفلسطيني بكم هائل من التصريحات والمقالات والتعليقات. الزاوية الأولى في قراءة هذه الظاهرة تتصل بوصف ياسر عرفات وسلوكه ونواياه وتأثيره في الاسرائيليين، اضافة الى انتقاده وتهديده من جانب السياسيين والعسكريين والمعلقين السياسيين والعسكريين المتابعين والمطلعين على الشأن الاسرائيلي، اضافة الى الجمهور. حظي الرئيس الفلسطيني على هذا الصعيد بجملة من الأوصاف والتعليقات، كان أهمها ما ورد على لسان رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الذي وصفه ب"الكاذب المزمن"، كما شبهه بابن لادن. أما سلفه ايهود باراك فلم يقصر في هجاء عرفات، واتهمه بأنه "مسؤول عن العنف"، وأنه "طالما بقي على رأسهم الفلسطينيين فلا أمل في الاتفاق". أما شمعون بيريز فقد كان وحيداً بين السياسيين الاسرائيليين الذي تعامل بواقعية مع عرفات، ورفض الهجوم عليه، وحين سئل عمن أسوأ منه أجاب: "حماس". وزير الدفاع الاسرائيلي بن اليعيزر ذهب الى أن "عرفات أنهى دوره التاريخي". أما في اجهزة المخابرات فلاحظوا حسب صحيفة "هتسوفيه" اليمينية 27/5 ان "ياسر عرفات يبني لنفسه صورة صلاح الدين"، فيما ذهب رئيس الاستخبارات عاموس مالكا الى أن عرفات يهدد استقرار المنطقة. المعلق الاسرائيلي غرشوم غرونبرع، وصف عرفات معاريف - 22/6 بأنه "يسيطر على حياتنا، وهنا ثمة سبب للكراهية والحقد، لا نستطيع أن نعلن استقلالنا عنه. مثل المطلقة التي تجرنا الى المحكمة مرة تلو أخرى، وتهددنا بالهاتف في ساعات متأخرة من الليل. هو أيضاً لا يدعنا نتقدم في الحياة". زئيف شيف المعلق الاستراتيجي المعروف قال في "هآرتس" 25/5 "يعتقد عرفات انه سيتمكن من اسقاط حكومة شارون، فهو على قناعة بأنه سبق أن أسقط حكومتين في اسرائيل وربما ثلاثة، باراك، نتانياهو، وربما بيريز أيضاً". أما زميله في الصحيفة يونيل ماركوس، فقد ذهب في تعليق له في 12/6 حد وصف عرفات بأنه "دكتور وقف اطلاق النار ومستر ارهاب"، مذكراً بأن عرفات احتفل خلال الثلاثين السنة الأخيرة بمناسبات وقف اطلاق النار أكثر من احتفاله بأعياد ميلاده. لا حاجة هنا بالطبع الى متابعة ما يقوله أركان اليمين عن الرئيس الاسرائيلي، ولعل هذه الفقرة من مقال لغرشوم غورنبرع في صحيفة "معاريف" 18/6 تقدم الوصف الأفضل للموقف الاسرائيلي من عرفات. يقول الكاتب: "في ظل غياب برنامج فكري في السياسة الاسرائيلية تحول احساس واحد الى اجماع: الكراهية لعرفات. في اليمين يصفون جرائمه، وفي اليسار يتحدثون عن قبحه، وكل هذا من منطلق بهجة التوحد لدى المجموع. كثير من الاسرائيليين لا يؤمنون بالله ولكنهم جميعاً واثقون من أن الشيطان حي ويوزع وقته بين غزة ورام الله". هذا الشق من الجدل الاسرائيلي يشير الى عمق الأزمة الناشبة في الكيان الصهيوني بشأن الآلية المثلى للتعامل مع عرفات، بيد أن الأكثر وضوحاً في هذا الجدل هو الهدف الكامن خلفه. ان قراءة هذا الجدل على نحو هادئ تشير الى أن الرأي الراجح لدى القادة الصهاينة هو رفض التخلص من عرفات والسلطة، ومن هنا فإن الهدف الأبرز هو تهديد عرفات شخصياً، وتهديده في وجود سلطته، ودفعه بالتالى الى التراجع عن سياسة السكوت على استمرار الانتفاضة والمقاومة. وما من شك في أن إدراك هذا البعد في الجدل المذكور يمكن أن يحوله الى نقطة قوة لدى السلطة وعرفات بدل اعتباره مصدر خوف، وذلك عبر الايمان بحجم الأزمة في المجتمع الاسرائيلي، وامكان اسقاط شارون وفرض التراجع على السياسة الاسرائيلية. الزاوية الأخرى في النظرة الاسرائيلية لعرفات تتصل بما يريد والهدف الذي يسعى اليه ومدى سيطرته على الأرض. رئيس الأركان الاسرائيلي شاؤول موفاز ووزير الدفاع يؤيدان، حسبما ذكرت "هآرتس" في 6/7 تقدير الاستخبارات بأن عرفات يخدع الاسرائيليين، وأنه لا يريد وقف اطلاق النار. كما يؤيدان التقديرات ذاتها التي تذهب الى أن لعرفات سيطرة كاملة على الأرض. وتشير تقديرات الأجهزة الأمنية الى أن "عرفات يفضل مواصلة إراقة الدماء". وقد أيد هذا الرأي حوالى 80 في المئة من الاسرائيليين في استطلاعات للرأي. عاموس هرئيل المراسل العسكري لصحيفة "هآرتس" كتب في 8/6 موضحاً ان مدى سيطرة عرفات على الوضع لا تزال موضع خلاف بين "أمان" الاستخبارات و"الشاباك" المخابرات وجهاز منسق أعمال الحكومة في المناطق عاموس جلعاد. رئيس الاستخبارات عاموس مالكا يرى ان "النهاية لا تلوح في الأفق"، وأن عرفات "يعد شعبه لمواجهة مستمرة حتى مئة عام". وهو رأي جلعاد أيضاً وان على نحو أكثر تطرفاً. "الشاباك" يرى حسب زئيف شيف هآرتس - 15/7 ان عرفات يسيطر بدرجة كافية على الشارع، بيد أنه لا يستطيع لو أراد، أن يجسد رغبته هذه بسبب مسؤوليته عن نشوء الوضع. والخلاصة ان "قدرته على السيطرة محدودة جداً". الهدف الحقيقي لعرفات قدمه جهاز "أمان" أو شعبة الاستخبارات العسكرية وأيده وزير الدفاع ويتلخص حسب "هآرتس" 8/6 في إنشاء دولة فلسطينية في كل الضفة وغزة وعاصمتها القدس، وفي تطبيق حق العودة داخل دولة اسرائيل بواسطة توجيه مئات آلاف اللاجئين اليها. أما استراتيجيته لتحقيق ذلك فهي "العنف، مقدراً أنه سينجح بواسطته وحده في إجبار اسرائيل على قبول مطالبه". وثيقة جهاز الأمن العام التي كشفتها "معاريف" 6/7 وضعت 17 سبباً لسؤال "لماذا عرفات غير مرغوب فيه؟" خلاصتها تبنيه الارهاب وسيلة للحصول على التنازلات التي ترفضها اسرائيل، وتهديد وضعها القائم. يعكس هذا الشق من الجدل الاسرائيلي حجم المفاجأة التي أصيب بها الاسرائيليون من جراء انقلاب عرفات على جوهر أوسلو الأمني، بيد أنه يعكس استخفافاً سابقاً به وبالشعب الفلسطيني من زاوية ما يمكن أن يقبلوا به من التسوية، كما يتجاهل أن مبدأ التنازل عن 78 في المئة من فلسطين مقابل دولة على 22 في المئة منها ما زال مرفوضاً لدى القطاع الأوسع من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، حتى بشمول النسبة المذكورة القدسالشرقية وعودة اللاجئين. فيما يتصل بالأسلوب الأمثل للتعامل مع عرفات، وبالضرورة مع السلطة، تبرز حال المزايدة بين أطراف اليمين في المعسكر الصهيوني والآخرين، ومن ضمنهم شارون نفسه، الذي صرخ في وجه وزراء "شاس" كما نقلت "يديعوت احرونوت" 10/7 قائلاً: "جميعكم أبطال ولكن المسؤولية تقع علي". وذلك في معرض رده على مطالبتهم بالغاء السلطة وطرد عرفات الى الخارج. داخل السلطة واجهزتها الأمنية ثمة آراء متعددة حول كيفية التعامل مع عرفات، فشاؤول موفاز مثلاً يؤيد حملة عسكرية شاملة على السلطة، أما وزير الدفاع فيؤيد الخط القائم ممثلا في خطوات رد عسكري بجرعات معينة حسب الحاجة صعوداً وهبوطاً. وثيقة جهاز الأمن العام التي سبقت الاشارة اليها ذهبت الى أن أضرار اختفاء عرفات أقل بكثير من أضرار وجوده. ويفهم من ذلك، بالتالي، ان التخلص منه يشكل حلاً اذا تم بطريقة معقولة. وذهب وزير السياحة المتطرف رحبعام زئيفي "معاريف" 27/5 أبعد من ذلك، حين أيد "تغييب عرفات عن المسرح"، باعتباره "يسهل علينا ولن نكون ملزمين باتفاقات أوسلو، واي والخليل". رئيس مؤسسة أبحاث السلام يغنال كرمون كتب في "جيروزاليم بوست" 7/6، مؤيداً فكرة التخلص من عرفات، وهو ما خالفه داني روتشيلد منسق نشاطات الحكومة في المناطق سابقاً "معاريف" 22/6. جدعون سامت في "هآرتس" 11/7 يلخص الموقف العام من الأسلوب العنيف في التعامل مع عرفات بالقول، ان ثمة إجماعاً وطنياً على الخوف من عملية عسكرية شاملة كما حدث في لبنان. أما زئيف شيف فيبدو أكثر صراحة ووضحاً "هآرتس" 25/5، حين قال: "ليس للحكومة الراهنة استراتيجية شاملة وواضحة على المدى الطويل في موضوع النزاع مع الفلسطينيين، ولم تقرر لنفسها ما هو الكيان الفلسطيني الذي ترغب في رؤيته الى جانبها في ختام المفاوضات السياسية، ولا ما هو هدفها الاستراتيجي". هذا الشق من الجدل الاسرائيلي له بعد أمني يتصل بما إذا كانت الانتفاضة وموجة المقاومة العسكرية قراراً عرفاتياً أم ان لها أبعاداً أخرى، اضافة الى بعد سياسي يتصل بما إذا كان التفاوض ذا جدوى بوجود الهدف المعلن للسلطة بدولة كاملة السيادة على الضفة وغزةوالقدسالشرقية، مع عدم توافر قبول لذلك الهدف لدى القيادة الاسرائيلية، أم ان حلاً عسكرياً هو المطلوب لحل المعضلة، وهل يمكن أن يكون حلاً بالفعل؟ كما هو شأن أسلوب التعامل مع الرئيس الفلسطيني، يختلف الاسرائيليون على تبعات غيابه أو تغييبه. فقد توقع جهاز الأمن العام في وثيقة نشرت في "معاريف" 6/7، بأن يتبع اختفاء عرفات "نشوب صراع داخلي على السيطرة، ومن الجائز الافتراض أن السلطة ستدار من قبل ائتلاف أوساط أمنية - علمانية لأن قوة الجيش أفضل بكثير من قوة حماس، وسينشغل الفلسطينيون لفترة طويلة بأنفسهم". أما الزعيم الجديد "فيرتبط بدعم زعماء عرب وبعض قادة العالم". وتتوقع الوثيقة عموماً أن تكون القيادة الجديدة "أكثر براغماتية وأقل دينية وأكثر شباباً ومنفتحة أكثر نحو الحلول"، و"ستقاتل المعارضة الاسلامية بنجاعة، فيما سيزداد خطر الحرب الأهلية". وهو رأي يؤيده رحبعان زئيفي "معاريف" 27/5 اذ يتوقع ان تكون قيادة ما بعد عرفات أقل "وقاحة" و"لا تخلط الارهاب بالمفاوضات". وهو رأي يغئال كرمون أيضاً. داني روتشيلد توقع في "معاريف" 22/5 بأن حالاً من الفوضى ستعم المناطق لفترة قصيرة لكنها كافية لتقويض استقرار المنطقة كلها. فيما كان بيريز وحده الذي أعلن مراراً أن مغادرة عرفات الساحة "ستضطر اسرائيل للتفاوض مع حماس". المحلل بن كسبيت رسم في "معاريف" 25/5 سيناريو لطرد عرفات خارج غزة، مشيراً الى أنه سيبقى الزعيم بلا منازع وسيدير المعركة من الخارج. أما إذا اختفى من الحلبة تماماً فستقع السلطة في يد الائتلاف القوي جداً: أبو مازن إذا تمكن من التحالف مع دحلان ومحمد رشيد مثلا، واستقطب الى جانبه الجنرالين القويين في الضفة الرجوب والطراوي ولا يتجاهل كسبيت احتمال نشوب صراعات دامية في الفترة الانتقالية بين الفصائل، حيث سيكون في غزة "دحلانستان"، وفي الضفة "رجوبستان"، وبالتالي - يضيف المحلل الاسرائيلي - فإن "الزعيم القادم - حسب هذا السيناريو - سيشق طريقه على أنهار من الدم، بعضها من الدم الاسرائيلي". عكيفا الدار المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس" كتب في 18/6 عن سيناريو ما بعد عرفات، وأكد ان سؤال "هل تعتبر مغادرة عرفات جيدة لليهود"، ليس له جواب واحد متجانس لدى جهاز الدفاع. فهناك من يحذر بأن الطوفان يأتي بعده، حيث سيسيطر على الأرض تحالف جبهات الرفض في منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الاسلامية، وستنشب "حرب عصابات بين جنود جيش الدفاع والفارين من جيش عرفات والمتمردين الفلسطينيين". المتفائلون، حسب الدار، يرسمون سيناريواً آخر، حيث يجيبون في قيادة الأركان وهم يتضاحكون على سؤال ماذا يحدث بالقول: "هل سيحدث عندنا رجوبستان في الضفة ودحلانستان في القطاع؟". حسب هذا السيناريو ستعين اجهزة الأمن الفلسطيني سياسياً مثل أبو العلاء باعتباره رئيساً - دمية، بينما يمسكون هم بالخيوط. الجيل الجديد من القادة علمانيون ولدوا بعد النكبة ولم يقسموا قسم الولاء للأقصى وليسوا ملتزمين بحق العودة للاجئي 1948". اما زئيف شيف فقد توقع في "هآرتس" 15/7 أن تختفي قيادة الخارج بعد انتهاء حكم عرفات، وأن تحل مكانها "قيادة الداخل" و"مجموعة الكوادر الوسطى". الدار نفسه وفي تحليل آخر له "هآرتس" 19/7 يؤكد ان شارون "قال لبيريز انه اقتنع نهائياً بأن الوضع سيكون أسوأ من دون عرفات". هذا الجدل حول ما بعد عرفات يؤكد أزمة القيادة الاسرائيلية من جهة، كما يؤكد عنصر التهديد الكامن خلفه للسلطة وعرفات، بيد أنه يبرز من جانب آخر حجم التخبط في فهم الوضع الفلسطيني الداخلي ومرجعيته العربية. اسئلة "رجوبستان" و"دحلانستان" التي تشيع في الساحة الاسرائيلية تشير الى فهم مغلوط للوضع الفلسطيني عبر التعامل معه كما لو كان دولة افريقية، ذلك أن أحداً في الداخل الفلسطيني لا يمكنه التحول الى انطوان لحد جديد لمصلحة الدولة العبرية، حتى لو كان قائد أكبر جهاز أمني، لأن عناصر ذلك الجهاز ليسوا عملاء للاحتلال كي يقبلوا التحول الى جنود للحد جديد، كما ان لدى الشعب الفلسطيني القدرة على التعامل مع ظواهر من هذا النوع. اما المرجعية العربية، والمصرية خصوصاً فلا يمكنها تقبل ذلك بالمطلق، ولا بد للقائد الجديد من أن يأخذ شرعية معقولة في الداخل الفلسطيني الشارع الشعبي، فتح، المجلس الوطني، المجلس التشريعي، قوى المقاومة، اضافة الى شرعية القاهرة ومعها الوضع العربي في محاوره الرئيسية، وسوى ذلك فإنه سيتحول الى هدف سهل للقتل من قوى لا تنقصها القدرة على فعل ذلك اذا توافرت شرعيته الداخلية والعربية. ان ما يمكن أن يقدمه عرفات للاسرائيليين، إذا تجاهل المعطيات الشعبية والتاريخية، أكثر بكثير مما يمكن أن يقدمه أي شخص آخر، وإذا لم يدرك الاسرائيليون ذلك فلن يحصدوا سوى الوهم والدمار، مع انهم لن يستقروا في هذه البلاد في يوم من الأيام، حتى لو وقعت المعاهدات وأعلنت نهاية النزاع، وهو ما لا يبدو قادماً في المستقبل القريب كما تشير أكثر القراءات. * كاتب أردني.