طوى عمر ضياع فلسطين أكثر من نصف قرن من الزمن، تراجعت خلاله"صيحات"الحدث لتؤول الى أصداء خافتة في بعض العواصم العربية، ولتصير الى هم فلسطيني حصري، بعدما ضج الفضاء من"خطب تحرير فلسطين"، وبعدما استنفدت المهل السياسية اللازمة لبناء"الأنظمة العربية التقدمية..."شرطاً لا بديل منه لهذا التحرير! فات الزمن، وما زال مقيماً على فوات، من دون بارقة أمل توحي بأنه سيكون موضوعاً للتساؤل"النظامي العربي"الرسمي، ومن دون تباشير مراجعة جادة ولامعة من قبل جموع"الثوريين والقوميين والديموقراطيين والنهضويين والإسلاميين...". سمة العجز التاريخي قيد على كل الردود القادرة على ملامسة صوغ جواب يتناسب وضخامة هزيمة العرب التاريخية في فلسطين، والتي تتكرر في صيغ مختلفة، تفاقم العجز الموروث وتعيد إنتاجه وتصديره الى المستقبل العربي، الذي لا يبدو زاهياً، بكل المقاييس السياسية والاجتماعية. على نحو ما، يمكن الادعاء بأن حدث عام 1948، الذي كان مسرحه فلسطين"والطوق المحيط بها"عربياً، يتجدد بمعانيه الأساسية، بل ان هذه المعاني تأخذ ابعاداً جديدة، لفرط ما أعمل اللسان العربي في شرحها وتأويلها، مما حوّل الى ثوابت"لغوية"، وإلى سلاح"ماض"في مقارعة الخطب الأخرى"المعادية"... معركة اللغة تظل الأهون والأيسر والأكثر مردوداً، في سياسة"الهروب الى الأمام"... أو الوراء، التي تتحكم بالمفاصل الكبرى للاستراتيجيات العربية!! من معارك اللغة، المعتمدة رسمياً وشعبياً، معركة"نظرية المؤامرة"، التي تقفز من سؤال الذات الى مساءلة الآخر، وتعفّ عن نقد أفعالها، حتى لا تتهم بممارسة"جلد الذات"، بينما تطلق لسياطها الأعنة، حتى تنهش من جسد آلة المؤامرة... الذي هو بالمناسبة من فولاذ!!"لماذا حصل مع العرب ما حصل؟". سؤال ليس برسم"الشعوب والأنظمة"التي تستهدفها المؤامرة. لكن الإلحاح يقيم في مساحة سؤال"لماذا فعلوا بنا ذلك؟"واضح الفارق بين السؤالين، لأنه يعبر عن افتراق بين وضعيتين. ولا بأس من التذكير بأن مباشرة الجواب العربي الجدي تقتضي قطع المسافة الفكرية الفاصلة بين السؤالين، ومن دون ذلك، ستظل"الهوة السياسية"العميقة"حاجزاً فاصلاً بين الرغبة في المسير الى الأمام، وبين القدرة على"تحريك الأقدام"!! القفز من فوق حواجز المعطيات الوقائعية والمادية، معركة"لغوية"عربية اخرى، جياد القفز الأثيرة، في هذا المجال، هي جياد الموروث، اذ يستعاض عن سوداوية اللوحة الحارة، بمجد الأيام الغابرة، وتقوم الرواية والنقل وحتى الأسطورة، مقام المقتضيات العلمية، التي كانت الأساس لما عرفه العرب من نهضة سالفة... هذا لمن يريد اجتناب الانتقائية في تاريخه، ولمن يطمح الى ان يظل العلم بوصلة هادية للمصير العربي. ما تقدم، يحضّ على معاينة الواقع العربي، حيال هزيمته المنكرة عام 1948، ليتبين الخلاصات الجوهرية، التي تحكمت بمسار هذا الواقع منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. من قبيل الصدمة الإيجابية القول ان المواجهة العربية - الإسرائيلية، أسفرت، حتى تاريخه، عن هزيمة"المجتمع العربي"في صراعه مع المجتمع الإسرائيلي. لذلك فإن الجانب العسكري، يعبّر عن ميزان"وطني عام"اولاً، قبل ان يقرأ على خلفية تقنية بحتة، عليه، فإن الاقتصاد والسياسة والثقافة والقيم الاجتماعية... وكل ما يمت الى المنظومة الاجتماعية والوطنية، معني بالهزينة، التي تقرر مفاعيلها أولاً، في ميدان القتال. على هذا النحو، يمكن القول ان ما سقط في فلسطين، ذات يوم، لم يقتصر على الأرض فقط، بل ان السقوط طاول كل المسارح والميادين العربية الأخرى. لم تكن الحروب العربية - الإسرائيلية الأخرى، إلا نتائج ارتدادية للزلزال الأصلي. وما بدا استثناء عام 1973 حرب تشرين عاد ليكرس في السياسة ما بدا ان الحرب قد وعدت بتعديل موازينه... هكذا يقف العرب امام حصيلة هزائمهم اليوم وليس في جعبتهم إلا: قرار حرب، لا يستطيعونه، وأحكام سلم، لا يطيقون احتمالها، وما بين"المرارتين"، تنشب منازعات بينية عربية، وتتغذى انقسامات داخلية اهلية، ويفتح احتمال ضياع اوطان عربية اخرى... شواهد ذلك، ما يجري في العراق وما يدور في السودان وما يعتمل تحت الرماد في بلدان"المشرق العربي ومغربه"! ما النتيجة من كل ذلك؟ مفاقمة العجز الداخلي العربي وتراكمه، واتساع الهوة لمصلحة التفوق الإسرائيلي، وتراجع النفوذ العربي دولياً، واستبعاد العرب من"منظومة القرار الدولي"وتجاهل مصالحهم... هذا لأن السياسة الدولية تبنى على اساس مقومات كل"منظمة اقليمية"تتحرك تحت شمس"العولمة الجديدة". في موازاة الواقع العربي، المتراجع، كيف يبدو الواقع الفلسطيني بعد"دهر"من معاناته؟ وضعية الحصار تظل الأقرب الى وصف واقع الحال الفلسطيني، ولعله ليس من المبالغة القول ان الفلسطينيين ظلوا محاصرين دائماً، وبطرائق مختلفة، عبر مسيرة نضالاتهم الشاقة الطويلة. قيد الفلسطينيون بداية، بمقولة ملخصها"ان تحرير فلسطين واجب قومي". وسُجن نشطاؤهم المستقلون الأوائل، لأن"استعجالهم"من شأنه تهديد رحلة الاستعدادات الرسمية للحرب. وكبّل الفلسطينيون، ضمن اطار رسمي ملحق، عندما سمح بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وأوكل شأنها الى ادارة"مأمونة"للإدارة الرسمية العربية، بحيث يكتفى من تنظيم وتجهيز وتعبئة الشعب الفلسطيني في الشتات، بحسب ترتيب مقرات"الناطقين الرسميين"باسمه. وعندما آل أمر منظمة التحرير الى الحركة الوطنية الفلسطينية المنبعثة بقيادة حركة فتح، حوصر النضال الفلسطيني وقمع، لأن استقلاليته وديناميته الصراعية، فاضتا عن قدرة احتمال الأنظمة العربية مجتمعة. لقد خاض الفلسطينيون مع اشقائهم معارك انتزاع حرية قرارهم، بعد ان صودرت القضية الفلسطينية ردحاً من الزمن، من جانب أنظمة استمدت شرعية قيامها منها. وعندما كان للفلسطينيين ما أرادوه، استمر التدخل في شؤونهم، تحت عباءة نظرة قومية بائدة، استمرت بالقول ان قضية فلسطين قضية قومية..."ولم تمارس المترتب على ذلك القول إلا في مجال اللعب بالورقة الفلسطينية واستعمالها في كواليس التفاوض على الأدوار"القطرية"! تطرح ذكرى"الهزيمة الأولى"اليوم، مراجعة الخيار العسكري العربي، لتبيان ثغراته ونواقصه و...جديته. مثلما تطرح مسألة الكفاح المسلح"الطويل الأمد"الذي خاضته الحركة الوطنية الفلسطينية، من الخارج بداية، وفي الداخل الفلسطيني لاحقاً، وذلك لرسم حدود قدراته على تعديل موازين القوى، بالاتكاء على الميزان الفلسطيني حصراً. الى ذلك، تطرح انتفاضة الشعب الفلسطيني، الأولى والثانية، مسألة الاستعداد الكفاحي العالي لدى"الاجتماع الفلسطيني"وتضيء على معنى استقلالية القرار، كركيزة اساسية دافعة، لكل الطاقة النضالية الفلسطينية... لكن ذلك لا يشكل مهرباً لأي وضع عربي من التزامه العروبي، حيال الشعب الفلسطيني، بمبررات من نوع"ان الفلسطينيين احرار في قرارهم... أو أنهم انفردوا... او نرضى ما يرضونه لأنفسهم..."، المؤازرة السياسية والمادية، من شأنها ان تعين"الشعب الفلسطيني المستقل"على تجنب"الضرورات التي تبيح المحظورات". نقول ذلك وفي ذهننا الحصار الجائر الذي يأخذ بأعناق"فلسطين"اليوم، فلا تقوم مبادرة للتخفيف من قبضته، مبادرة جدية، منطلقها الانضمام سياسياً الى الخيار الفلسطيني قبل الانضمام"بالفتاوى وببعض النفاق الحالي"عام آخر على ذكرى 1948 والهزيمة مقيمة، ومن التفاؤل غير الواقعي، ان تمنى النفس العربية بمستقبل واعد قريب... في هذه الأثناء لا مناص من التمسك برومانسية قومية، ليظل الحلم مشتعلاً... هذا أضعف"النضال"!! * كاتب لبناني.