تدفعنا مرارات الواقع ومعها افتقادنا القدرة على الفعل الإيجابي البنّاء الى التحليق في عوالم الأحلام والآمال بحثاً عن فضاء يمكننا من بعض الهناء المفقود او التفاؤل الكاذب. ونظراً لتاريخية هذه المرارات ولتاريخية ممارستنا الهرب من الواقع نكوصاً الى الأحلام او انشداداً الى آمال مبهمة، فقد ادمنا هذا الفعل وجعلناه جزءاً عضوياً من شخصيتنا التي باتت تعرف به من الداني والقاصي، كشعوب حالمة تقتات من ضعفها لتغذية اوهام قوتها. نعيش كفلسطينيين وعرب الهدف - الأمل حتى ولو كان بمثابة يوتوبيا اكثر مما نعيش الواقع كما هو، وكثيراً ما نظنه قريب المنال ولا يحتاج الى تحقيق سوى بعض الجهد وبعض الوقت. ونرفض التعامل مع وقائع حتى ولو كان بعضها مفضياً الى الاقتراب من الهدف - الأمل. ولعل هذا هو السبب الذي يجعلنا نرفض الاعتراف بالهزيمة ونرفض الاعتراف بإفرازاتها ونتائجها عند وقوعها. ومن ذلك مثلاً، في العصر الحديث، رفض الاعتراف بهزيمة 1948 واعتبارنا إياها مجرد نكبة عابرة سرعان ما سنمحو آثارها، ورفضنا الاعتراف بهزيمة 1967 واعتبارنا اياها مجرد نكسة عابرة تضاف الى نكبة عابرة لكنها مقيمة، وننظر الى الاحتلال الأميركي للعراق بصفته مجرد احتلال عابر او موقت لا بصفته هزيمة من نوع جديد. لقد هزمنا عام 1948 حين فشلت جيوشنا وحكوماتنا في المواجهة مع المنظمات العسكرية والسياسية الصهيونية، وفشلت بالتالي في منع اقامة اسرائيل سواء ضمن الحدود التي رسمها القرار 181 او في امتدادها الى خارج هذه الحدود. وعلى رغم هذه الهزيمة الساحقة التي جاءت بعد عشرين عاماً على صدور وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وعلى بدء وضعه موضع التطبيق الفعلي، فقد رفضنا الاعتراف بها كهزيمة، وانطلقنا فوراً حكومات وأحزاباً وشعوباً ننشد تحرير فلسطين اليوم وليس غداً. وعشنا حلم التحرير بصفته واقعاً لا محالة من دون ان نأبه الى افتقادنا متطلبات أو مقومات فعل التحرير المنشود: عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً وإعلامياً وغير ذلك. ومع كل انقلاب او ثورة ومع كل لقاء عربي على مستوى القمة كنا نظن ان ساعة التحرير تدنو اكثر فأكثر الى ان استيقظنا من احلامنا وظنوننا عام 1967 على هزيمة اكبر بعد عشرين سنة من الهزيمة الأولى، لكننا مع ذلك وبفعل الخطاب الثوري لقياداتنا سرعان ما استسلمنا مجدداً للمقولة الثورية الزاعمة ان ما حدث مجرد نكسة لا هزيمة، واننا امة لا تهزم على رغم غرقها المتزايد فيها وعلى رغم سيرنا الحثيث نحوها ونحن نرفع رايات النصر المنشود. ولكن، ما إن تحقق ما وصف بالنصر في حرب التحرير عام 1973 حتى سارعت الدول العربية والمنظمات الفلسطينية الى إسقاط شعار تحرير فلسطين والاستعاضة عنه بشعار تحرير ما احتل في هزيمة 1967 او إزالة آثار العدوان، وكأنما هزيمة 1948 عفا عنها الزمن. ثم سرعان ما جاءت الخطوة التالية بإسقاط شعار هدف تحرير ما احتل عام 1967 والاستعاضة عنه بالسعي الى تأمين الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلت في ذلك العام واستمرت الحال هكذا، الى ان بتنا اليوم نتحدث في خطابنا السياسي والإعلامي عن السلام مع اسرائيل ورغبتنا به ونشداننا اياه منذ زمن سحيق على امل ان تقتنع اسرائيل وتتفضل بقبول السلام معنا في مقابل انسحابها من ارضنا. نفعل ذلك كله من دون ان نقر او نعترف بهزيمة او حتى بعجز عن تحرير ارض او استعادة حق مغتصب. ومن دون ان نعترف او ان نصارح انفسنا بأننا نزداد عجزاً لا قوة ونزداد ونزداد بالتالي قابلية للهزيمة حتى في ما يوصف راهناً بأنه معركة السلام بعد هزائمنا في معركة التحرير. في زمن شعار تحرير فلسطين والإعداد قومياً لما وصف بمعركة التحرير المقبلة خلال ساعات او ايام او اشهر تأسست غالبية الفصائل الفلسطينية الرئيسة التي ستتولى مهمة المشاركة الفلسطينية في تلك المعركة، وقد حملت في اسمائها الشعار ذاته تيمناً بقرب ساعة تحرير فلسطين. فكان اولاً إقرار تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في القمتين العربيتين: الأولى والثانية، وكان معها تأسيس جيش التحرير الفلسطيني لينضم الى الجيوش العربية في معركة التحرير. ثم جاء الإعلان عن تأسيس أو انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" وتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وما استقرت عليه بعد انقسامها الى ثلاث جبهات حملت كل منها الاسم والشعار - الهدف ذاته مع تعديلات او اضافات تمييزية او اسميه غير واقعية سواء لجهة القول بأنها شعبية او القول بأنها ديموقراطية. إذ تمكنت حركة فتح منذ تأسيسها وحتى اليوم من ان تبرهن واقعياً لا اسمياً، انها الحركة الأكثر شعبية وأنها في بنيتها الداخلية وعلاقاتها مع الغير الحركة الأكثر ديموقراطية من غيرها. ويلاحظ ان غالبية المنظمات التي تأسست بعد هزيمة 1967، وبعد إسقاط شعار تحرير فلسطين وبدء رفع شعار تحرير ما احتل آنذاك، لم تحمل في اسمائها الشعار - الهدف المتمثل بتحرير فلسطين ولا حتى اسم فلسطين. ومن ذلك مثلاً منظمة "النضال الشعبي الفلسطيني"، ومنظمة "طلائع حرب التحرير الشعبية" التي حملت هذا الاسم تمشياً مع الخطاب الذي ساد في سورية قبل عام 1970 والداعي الى حرب التحرير الشعبية. والمنظمة التي تأسست في العراق وأطلق عليها اسم "جبهة التحرير العربية". ويلاحظ ان اياً من هاتين المنظمتين، وتمشياً مع المبادئ والأهداف القومية التي يدعو إليها حزب البعث لم تحمل في اسمها ما يشير الى فلسطينيتها على رغم اهدافها وبرامجها المعلنة وتصنيفها كتنظيم عضوي في النضال الفلسطيني ومشاركتها في هيئات منظمة التحرير الفلسطينية. بعد نحو عقد من الزمن على إقرار البرنامج المرحلي من جانب منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد سنوات من توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية تمّ تأسيس اثنتين من اهم المنظمات الفلسطينية الناشطة الآن في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهما حماس والجهاد. فقد آثرت الأولى ان تطلق على نفسها اسم "حركة المقاومة الإسلامية" وآثرت الثانية ان تطلق على نفسها اسم "حركة الجهاد الإسلامي" والاكتفاء بذلك من دون ذكر اسم فلسطين. تخلت غالبية، إن لم يكن كل المنظمات الفلسطينية، عن هدف تحرير فلسطين، وأكدت ذلك في برامجها وخطاباتها السياسية والإعلامية، وتخلت ايضاً عن هدف تحرير الضفة والقطاع مستبدلة ذلك بهدف تحقيق انسحاب اسرائيل منهما وتوظيف مختلف اشكال النضال والعمل الفلسطيني من اجله، بدءاً من الاعتراف بإسرائيل ومروراً بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وحتى الاستعداد للقبول ببعض متطلبات الأمن وضرورات الاستيطان الإسرائيلي. ولم يبق بالتالي، في الأدبيات والقرارات والبرامج الفلسطينية والعربية الرسمية، من ذكر لتحرير فلسطين سوى في تلك الأسماء التي لا تزال تحملها بعض الفصائل الفلسطينية، والتي كثيراً ما تبدو في عالم العرب اليوم كشواهد على زمن مضى: لئلا ننساه. * كاتب فلسطيني.