يستعرض الباحث شعيب حليفي في كتابه الموسوم بپ"الرحلة في الأدب العربي: التجنس... آليات الكتابة... خطاب المتخيل"رؤية للنشر، القاهرة، 2006 الرحلة في الأدب العربي بصفتها نصاً ثقافياً تنكشف فيه الذات العربية والمُسلمة انكشافاً إضافياً ومركزياً من خلال صورتين بارزتين هما صورتا: الأنا والآخر. فالنصُّ الرَحليُّ، بحسب شعيب حليفي، أحدُ أهمِّ النصوص الثقافية القادرة على كشف جوانب الهوية العربية والإسلامية ومعرفة حساسيتها، ورصد استجاباتها وتفكيك مكوِّناتها واستراتيجياتها الثقافية وأكثرها غنىً وأشدّها ثراء وإنتاجاً للمفاهيم الثقافية"لما يُقدِّمه من تفاصيل متنوعة وزاخرة. وينطلق الباحث حليفي من تحديدٍ منهجي مُفاده أنَّ الرحلة العربية، قبل القرن الثامن عشر، كانت تستهدفُ زيارة الأماكن المُقدَّسة والمعالم الدينية"توكيداً لعمق روابطها ورموزها في المخيال العربي ودفاعاً عن حضورها في الثقافة والفكر. إلاَّ أنَّ الرحلة، بعد هذا التاريخ، ستطرأُ على دوافعها تحولاتٌ مهمة وأهدافٌ جديدةٌ من أبرزها: اكتشاف الآخر، وإدراك قوَّته وتطلّعاته، ورصد أمكنته، ومعرفة تقاليده الثقافية، تمهيداً لمحاورته ونشر الثقافة الإسلامية وتعاليمها، إضافة إلى سبب يرتبط بالذات العربية وهو البحثُ"عن تفكيك مأزق الذات"وكشف أسباب انكسارها وتراجع مشروعها الثقافي. لهذه الأسباب وغيرها نشأَ تحوُّلٌ في أشكال الرحلات العربية وغاياتها، فكان أنْ تشكَّلتْ الرحلات السّفارية، والجغرافية، والسياحية. ويميِّزُ الباحث حليفي بين مستويات الرحلة من حيث: الوقائع التسجيلية، والانطباعات، والوصف، والمشاهدات، والغايات المعلنة، والدوافع المضمرة، إضافةً إلى إشارته إلى تعدد الأشكال التي ينطوي عليها النصّ الرحليّ، فهو يتضمنُ: توثيق الأحداث، ورصد الأخبار، وكتابة السير، والتراجم، وتدوين الرسائل، علاوةً على انفتاحه على التجربة الإنسانية المُتداعية زماناً ومعرفة ومكانا،ً ممّا يجعله غنياً بالثيمات والدلالات المُتناسلة والعلامات المتوالدة. ويرى حليفي أنَّ هذه المستويات والأشكال الخطابية يكاد النصّ الرحليّ يتفردُ بها عن بقية النصوص الأخرى، ذلك أنَّ طاقته التعبيرية التخييلية الناجمة عن تداخل كل المستويات والأشكال قادرةٌ على ضخِّ المفاهيم والدلالات ذات الخصوصية الشديدة التي لا تملكها النصوص الأخرى التي توقفت واقتصرت على إنتاج مفاهيم ودلالات نسقية. لذلك كله، يكتسبُ النصّ الرحليّ فرادة تكوينية، إذ يدفع المقاربات إلى تجديد الأسئلة الثقافية وإضاءة المساحات الجديدة. على أنَّ ثراء النصّ الرحلي يجعله عُرضة للتجزئة والاستبعاد"إذ غالباً ما يعمد النقادُ إلى إخضاعه لمعايير الكذب والصدق بحثاً عن"الحقائق"، وفي هذه النقطة يقترحُ حليفي ضرورة احترام الشكل التعبيري وتقطيع النص وكشف مراحله ثمّ تفكيك آليات الكتابة التي تصهرُ المراحل كلها. وبحسب حليفي، فإنَّ شخصيةَ الرَّحالة وثقافته تؤدِّيان دوراً مضاعفاً في تشكيل النصِّ الرحلي حيث تتعالق الذات بالشكل والمرجع، لذلك يختلف النصُّ الرحليُّ باختلاف ثقافة الرحالة وممتلكاته المعرفية وخلفيته الإبداعية فقد يصطبغ النصُّ الرحليُّ بصبغة تأريخية أو جغرافية أو أدبية أو تصنيفية أو سِفارية، الأمرُ الذي يحتمُ على الباحث دراسة علاقة الرحلة بالحقول المجاورة. وتستمدُّ الرحلة العربية جذورها الثقافية من النصِّ القرآني الذي كان عاملاً حاسماً في انبثاق السرد بأشكاله المختلفة وخطاباته المتعددة. ونظراً الى الحوافز المعرفية التي نجح النصُّ القرآنيُّ في ترسيخها، اتجهت الثقافة العربية نحو رصد مختلف التجليات التي يحيلُ إليها هذا النصّ لكشف دلالاته ورموزه الثقافية بدءاً بمباحث الإعجاز البلاغي والقصص القرآني كمرحلة أولى ومروراً بالسرد التاريخي المتمثل في نصوص الأخبار، والمغازي، والسير، والتراجم، والطبقات، وتاريخ المسالك والممالك كمرحلة ثانية، وانتهاء بالسرد الديني المتمثل في وقائع الأنبياء، وأخبارهم، وقصص الأمم الغابرة، وحكايات الخلق، وسير الملوك، والغزاة كمرحلة ختامية. ونتيجة تحولات السرد العربي وتعقّد مساراته تبدو نصوصه في غاية التشابك والتداخل، ويضاف الى ذلك تنامي وظائفه"إذ حقق انتقالاً تدريجياً وتطوُّراً فنياً هائلاً أدَّى الى انتقاله من المساحة الدينية المُحددة بدوافع كشف دلالات النص القرآني إلى السرديات الثقافية بمعناها الأوسع والأشمل، الأمر الذي أدى إلى ميلاد أشكالٍ سردية ذات طبيعة أدبية مفتوحة على الدلالات الثقافية المُجاورة التي تكفلَ النصّ الثقافي العام رعايتها وحفظها. وخلاصة القول: إنَّ عمل الباحث شعيب حليفي يتضمنُ جهداً منهجياً مميزاً يتمثلُ، على وجه الخصوص، في تشقيق المادة النصية وفصلها عن سياقها التاريخي ليتسنى له دراسة النصوص وكشف أبعادها السردية ثم إعادة ربط هذه الأبعاد بالسياق التاريخي. وهذه المعالجة المنهجية من شأنها تحقيق أمرين"الأوّل: عدم إلحاق النصّ الأدبي بالتاريخ ليغدو نصاً تاريخياً. والثاني: حتى لا يُصبحَ النصُّ الأدبي متعالياً على سياقاته الثقافية ومكوّناته الدلالية وفضائه التاريخي.