تحتفل الحياة الادبية المصرية والعربية، هذه الايام، ببلوغ الكاتب الكبير ادوار الخراط عامه الثمانين. وأقام المجلس الأعلى للثقافة في مصر لجنة القصة احتفالية خاصة به، أخيراً، شارك فيها نقاد ومبدعون من سائر الاجيال الادبية، وصدر متواكباً مع الاحتفالية كتاب تذكاري عن الخراط، أعده الناقد والمترجم ماهر شفيق فريد، ساهمت فيه نخبة من المثقفين ومحبي صاحب"رامة والتنين". والواقع ان الإلمام بكل وجوه إدوار الخراط في عجالة قصيرة أمر صعب لذلك سأحصر مقاربتي، هنا، في أمرين أراهما جوهريين في تصوري للرجل. الاول: هو مساندته الشهيرة لحركة شعر السبعينات في مصر، التي سميت"الحداثة"الشعرية، منذ أواخر السبعينات وهو الذي اطلق على هذه التجربة تعبير"الحساسية الجديدة"، الذي صار مصطلحاً شائعاً، ناله ما ينال كل مصطلح جديد من هجوم وتأييد وهو الذي أجرى أول حوار جماعي عام مع شعراء السبعينات، لينشر في اوائل أعداد مجلة"الكرمل"عام 1984. وعندي ان هذه المعاضدة كانت ذات أهمية عظمى لذلك الجيل، حتى انني أعدها إحدى أقوى الدفعات التي ساهمت في صعود هذا الجيل ونضجه، كما ان تميز هذه المعاضدة يرجع الى معاكسة طرفها المحيط، فقدم الخراط هذه المعاضدة في وقت مبكر من صعود جيل الحداثة المصرية، حيث كان المناخ الثقافي كله تقريباً غير متوائم مع هذه التجربة الجديدة، فمعظم النقاد والقراء آنذاك كانوا منسجمين مع حركة شعر التفعيلة، نافرين من أية محاولة ناتئة. ولم يكن ادوار الخراط - في ذلك مجرد كاتب متعاطف من الخارج - بل كان"ضالعاً"منخرطاً في التجربة من الداخل، وعلى ذلك، فإن الخراط لم يكن"محامياً"محترفاً عن شعر الحداثة، بل كان"متهماً"ضمن المتهمين، وناله من رذاذ الاتهامات والخصومات ما نال الشعراء أنفسهم، وربما أكثر مما نالوا! واخرج الخراط هذه الدراسات النقدية الداعمة لشعر"الحساسية الجديدة"في كتاب ضخم بعنوان"شعر الحداثة في مصر"، كان - وسيظل - مرجعاً وافياً رائداً لهذه التجربة الشائكة. صحيح ان كثيرين من النقاد والشعراء التفتوا - بعد ادوار الخراط - الى هذه التجربة الجديدة، وساهموا بدرجات مختلفة في إضاءتها وتدعيمها، مثل محمود أمين العالم وصبري حافظ وصلاح فضل وأبو سنة وأحمد عبدالمعطي حجازي الذي اخرج كتاباً كاملاً عن شعراء ذلك الجيل بعنوان:"احفاد شوقي" وجابر عصفور وعبدالمنعم تليمة ومحمد عبدالمطلب الذي اخرج في هذا الشأن كتابين مهمين هما:"تقابلات الحداثة"وپ"النص المشكل". على أن تعضيد الخراط النقدي لشعر الحداثة في مصر والبلاد العربية ظل ذا مذاق خاص وطعم مختلف، وذلك لثلاثة اسباب: الأول: ان هذا التعضيد - كما أشرنا - كان مبكراً، حين كانت التجربة في بداياتها القلقة، بحيث لم تكن بلغت الرسوخ والنضج والثمر بعد، ومن ثم فإن تدعيمها - أثناء تلك البدايات القلقة - كان نوعاً من المقامرة غير المأمونة، او المخاطرة الحرجة، من كاتب كبير كالخراط. الثاني: ان هذا التعضيد كان تعضيد"الضالع الشريك"لا المتابع الخارجي وآية ذلك ان الخراط لم يقدم نقداً لتجارب شعرية من غير تجربة الحداثة، في حين ان معظم النقاد الآخرين المحترفين كتبوا نقداً عن التجارب الشعرية المختلفة: عمودية وتفعيلية وخلافه. الثالث: ان تعضيد الخراط كان بذائقة رفيعة، نأت به عن المعالجات المدرسية الجافة أو التشريح البارد، الذي يخلو من طزاجة التذوق وحرارة الحس. مثلث الهوية الأمر الجوهري الثاني في تصوري للرجل، هو ما يمثله ادوار الخراط كله - نصاً وشخصاً - من نموذج صحي لسؤال"الهوية الوطنية"فمسار ادوار الثقافي والابداعي العريض يقدم لنا مثلثاً مكين التركيب، ضلعه الاول هو الرافد الفرعوني المصري القديم، وضلعه الثاني هو الرافد القبطي المسيحي، وضلعه الثالث هو الرافد الاسلامي العربي. وتجلى كل ضلع من هذا المثلث تجلياً باهراً حتى لتكاد تظن ان هذا الضلع هو"المرجعية"الوحيدة عند الرجل. على أن العمق الانساني والحضاري والثقافي عند كاتبنا جعل ذلك المثلث المكين منصهر الاضلاع متفاعل الأبعاد في سبيكة جدلية نابضة. وصانت هذه السبيكة الجدلية النابضة صاحبها من الانزلاق في أحد التطرفات الثلاثة التي ينزلق اليها المثقفون والمواطنون في حمّى بحثهم المأزوم عن"المرجعية"الحاكمة وپ"الهوية"الواسمة. تطرف الانتماء المصري الفرعوني الأحادي، وتطرف الانتماء المسيحي القبطي الأحادي، وتطرف الانتماء الإسلامي العربي الأحادي. واغرق كل انتماء في نفسه استغراقاً، نفي البعدين الآخرين نفياً كاملاً، ولم يستطع، الا القليلون، ان يجدوا"العروة الوثقي"بين هذه الأبعاد الثلاثة، التي تقيم ضفيرة صحية ومتماسكة واحدة. من هؤلاء القليلين، كان ادوار الخراط، وعندي ان نجاح المثقف العربي في إقامة هذا المثلث الجدلي الصحي على تنوعاته من بلد عربي الى بلد آخر هو مفتاح من مفاتيح سلامة الروح العربي، وعلامة من علامات تواؤم الانسان مع لحظاته الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل. بهذا المعنى، فإن نموذج ادوار الخراط وأمثاله القليلين هو حل من حلول الثقافة المصرية والعربية الراهنة، في سعيها الى تجاوز مأزق الهوية المشطورة. مرايا ادوار الخراط عدة، وآثرت ان ألقي ضوءاً بسيطاً على أمرين مهمين فيه، اما الخراط الروائي، والناقد، والمترجم، والشاعر، والفنان التشكيلي، فتلك أحاديث أخرى طويلة. شاعر وناقد مصري