ينتقل ادوار الخراط من الرواية الى الشعر ومنه الى النقد. وفي الحقول الثلاثة هذه يحاول البحث عن سر الكتابة، هذا السر الذي يدفعه الى العطاء باستمرار. هنا قراءة لإدوار الخراط ناقداً وللظاهرة التي يشكلها في شخصه ونتاجه. لم ينل كاتبٌ من كُتاب الحياة الأدبية المصرية الراهنة ما ناله إدوار الخراط من نقد واتهامات وهجوم. علماً ان حياتنا الأدبية تدين له بالكثير من الانجازات و الفضائل. والغريب أن الهجوم على ادوار الخراط كان - وما زال - عملية مشتركة بين فرقاء كثيرين: ساهم فيها الرجعيون في السياسة والأدب، وساهم فيها التقدميون من أهل "الالتزام" الأدبي، وساهم فيها بعض ابناء جيلي من شعراء السبعينات وبعض شعراء الاجيال التالية من ابناء الثمانينات والتسعينات. واذا كان مفهوماً ان يهاجمه الرجعيون ومفهوماً أن يهاجمه "الالتزاميون"، فلم يكن مفهوماً ان يهاجمه بعض مبدعي الحداثة - القصصية والشعرية - من ابناء الاجيال الثلاثة الاخيرة، وهي الاجيال التي كان لإدوار الخراط الدور البارز في تشجيعها وتأييدها وتقديمها الى الساحة الثقافية المصرية والعربية. هاجمه البعض بسبب عمله مع يوسف السباعي في "منظمة التضامن الأفرو- آسيوية" ونسوا أن ذلك عمل وظيفي كان عليه أن يؤديه بإتقان وأمانة، وان يوسف السباعي قد عين يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل في المنظمة نفسها، ولم يتهمهما أحد بأنهما من أتباع يوسف السباعي. وعلى رغم أن دنقل كتب قصيدة عمودية شهيرة إثر مصرع يوسف السباعي، رثاه فيها بأحرّ الأدبيات مهاجماً قاتليه، فإن الخراط لم يكتب حرفاً عن أدب يوسف السباعي، لا في حياة السباعي ولا بعد رحيله، على كثرة ما كتب الخراط من نقد. أما العمل في المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية فلم يكن - ولا هو - سُبة او عيباً. والطريف أن الكثير من مهاجمي الخراط على عمله في مؤسسة شبه رسمية إنما يعملون في مؤسسات رسمية أكثر سوءاً من "منظمة التضامن"، ومع رؤساء أكثر سوءاً من يوسف السباعي. اتهمه البعض بأن أدبه غارق في "القبطية" وهو اتهام غير صحيح تدحضه ثلاث حقائق: أولاها ان "القبطية"، ليست اتهاماً في ذاتها، بل هي ديانة مصرية اصيلة، بلغت اصالتها حدّاً تمت فيها مطابقة بين "المصري" و"القبطي". وهل يمكن - في قياس مماثل - أن نتهم الأدباء المسلمين بالغرق في "الإسلامية"؟ ثانيتها ان القبطية عند الخراط هي ثقافة وحضارة وميراث وجداني وليست "لاهوتاً" كهنوتياً جامداً. وكيف تكون لاهوتاً لديه وهو المثقف العلماني، ذو التاريخ اليساري التروتسكي، الذي بسببه ذاق تجربة الاعتقال في الاربعينات المصرية الغنية. ثالثتها ان حب الخراط للثقافة الاسلامية وبخاصة عند الصوفيين هو حب مشبوب، وهيامه باللغة العربية هيام سافر لاعج يتجلى في رواياته جميعاً بأسطع صورة. والخراط - في هذا الشأن - واحد من تيار المفكرين والمبدعين المصريين الاقباط من أمثال شبلي شميل وسلامة موسى وغالي شكري ووليم سليمان قلادة وميلاد حنا وعدلي رزق الله ووديع أمين ويوسف شاهين وغيرهم ممن يعتبرون القبطية مرادفاً للمصرية وان كل مصري هو قبطي أولاً، ثم مسلم أو مسيحي بعد ذلك، وممن يرون ان المرجعية الاسلامية هي إطار حضاري ثقافي يجمع سائر المواطنين، بعيداً من العقيدة الدينية. واتهمه البعض بأنه "خرّب الحياة الثقافية المصرية"، وهو اتهام يتجاهل أن الخراط هو الرجل الذي قدم للحياة الثقافية المصرية والعربية ما يصل الى خمسين كتاباً حتى الآن، أمد الله عمره ما بين روايات وقصص قصيرة وترجمات وشعر ودراسات نقدية، وأنه الكاتب الذي قاد - بإبداعه - تياراً جديداً في الكتابة الروائية، ورائد - بنقده - الاتجاهات الحداثية في الإبداع الأدبي: بدءاً من جيل الستينات. نذكر تقديمه المرموق ليحيى الطاهر عبدالله ومشاركته في جماعة "غاليري 68" مروراً بجيل السبعينات في القصية القصيرة وفي الشعر، وصولاً الى جيل الثمانينات والتسعينات في القصة والشعر نذكر كتبه: مختارات القصة القصيرة في السبعينات - الحساسية الجديدة - الكتابة عبر النوعية - اصوات الحداثة - شعر الحداثة في مصر. ويبدو أن اتهام الخراط بتخريب الحياة الثقافية المصرية راجع في معظمه الى عوامل شخصية. فاذا كتب الخراط عن كاتب باستحسان ورأى ان كتابته ابداع جميل او مغاير او مختلف، وكان هذا الأديب المكتوب عنه لا يروق لصاحب الاتهام، صار الخراط مخرباً للحياة الثقافية. إن الامر لا يعدو أن يكون وجهة نظر قد نتفق او نختلف فيها معه، لكنها بالقطع ليست تخريباً للحياة الثقافية. وأنا شخصياً رأيت في بعض تقويم الخراط لبعض المبدعين مبالغة زائدة لا تبررها نصوص هؤلاء المبدعين، لكنني لم أر في ذلك التقويم المسرف تخريباً، بمقدار ما رأيت فيه وجهة نظر نقدية لها عند صاحبها منطلقها الذي تنطلق منه. "شعر الحداثة في مصر" سِفْر ضخم صدر اثناء أزمة "وليمة لأعشاب البحر" منذ بضعة شهور، ولأن الجميع كان مشغولاً بمعركة الوليمة، فلم يحظ الكتاب بما يستحقه من اهتمام وعناية، على رغم اهميته الكبيرة، وعلى رغم أن بعض رذاذ حملة جريدة "الشعب" ضد الابداع قد طاوله، فقد عرج فرسان "الشعب" الأماجد محمد عباس وعادل حسين رحمه الله ومجدي حسين وطلعت رميح على كتاب ادوار الخراط - ضمن تفتيشهم في صفحات الكتب التي تصدرها وزارة الثقافة - ملمحين الى "قبطية" الرجل، ثم مشيرين الى تمجيده الشعر الذي يغض من الدين - في رأيهم - ويخدش حياء الاخلاق الحميدة، ثم مقتطعين اجزاء من القصائد التي يتعرض لها الناقد بالدرس والتحليل من شعر عبدالمنعم رمضان وفريد ابو سعدة ومحمود نسيم وشعري، مستحثين الناس والسلطات على القصاص من الناقد ومن الشعراء بسبب ما تصوروه فيها - بحسب منهجهم التكفيري الضيق - من ازدراء للمقدسات والآداب! أما الكتاب نفسه - "شعر الحداثة في مصر" الصادر عن سلسلة كتابات نقدية في هيئة قصور الثقافة - فهو جهد جبار، يصل الى حوالى سبعمئة صفحة، تضم الدراسات النقدية التي كتبها الخراط عن الشعر والشعراء طوال العقدين الاخيرين من القرن العشرين، الثمانينات والتسعينات. يبدأ بمقدمة طويلة حول "شعر الحساسية الجديدة: أسسه النظرية"، وينتهي بخاتمة طويلة تحت عنوان "ملاحظات حول قصيدة النثر"، وبين البداية والختام دراسات حول الشعراء: ماجد يوسف، حسن طلب، حلمي سالم، عبدالمنعم رمضان، جمال القصاص، رفعت سلام، أمجد ريان، عبد المقصود عبدالكريم، أحمد الشهاوي، ايمان مرسال، محمد فريد أبو سعدة، محمد بدوي، وعماد ابو صالح. ثم يورد "وثيقة" هي "ندوة عن شعر السبعينات"، أدارها الخراط نفسه ونشرها في مجلة "الكرمل" في العدد الخاص بشعر الحداثة في مصر، اواسط الثمانينات. في مقدمته، يرى ادوار الخراط ان شعراء الحساسية الجديدة السبعينية وحدهم كانوا أول الذين كسروا وثن تلك المقدسة الصغيرة، التي سُميت بالتفعيلة، وجابهوا المسألة الشعرية حاسمين، على محوري الشكل والمضمون من غير إمكان للفصل بين المحورين. وفي مقالته الختامية يؤكد الخراط أنه لا يستطيع أن يجزم بأن المستقبل لقصيدة النثر وحدها. فمن ذا الذي يستطيع الرجم بالغيب؟ لكنها اليوم لا تحتاج الى تسويغ. لقد أصبحت قصيدة النثر اليوم ظاهرة لها حضورها القوي، بل الطاغي. إن مجرد هذا الحضور لقصيدة النثر، مصطلحاً وتجسيداً للمصطلح على السواء، لا بد من ان يدعونا، مع ازدياد من يكتبونها على نحو مطرد حتى لتكاد تكون لهم الغلبة في الميدان، الى أن نتأمل قليلاً في خصائص هذا الجنس الأدبي. وبين المقدمة والختام درس طويل عريض، يجمع بين التأصيل والتحليل والتأويل والتذوق والتساؤل، تسوده كله روح الفنان وشجاعة المبدع وبصيرة المتفهم. ربما يأخذ البعض على هذا الجهد أنه احتفى ببعض شعراء لا يستحقون الاحتفاء، لكن ذلك مردود بأن الفن وجهات نظر. وربما يأخذ البعض عليه إغفاله شعراء لا ينبغي أن يغفلوا مثل محمد سليمان ومحمد صالح وفاطمة قنديل. لكن ذلك مردود عليه بأنه لا يقدم مسحاً جغرافياً شاملاً، إنما يقدم نماذج ممن اتفق أن كتب عنهم طوال السنوات السابقة. وربما يأخذ البعض عليه تكرار بعض معانيه وأفكاره، لكن ذلك مردود عليه بالطابع التعليمي في الكتاب ورسالة التوضيح والشرح لترسيخ الظاهرة الحداثية الشعرية، وبتفاوت الاوقات التي كُتبت فيها فصول الكتاب عبر عقدين. على أن المؤكد في كل هذا أن كتاب "شعر الحداثة في مصر" هو واحد من أكبر الجهود النقدية التي شهدتها ساحتنا الشعرية لتسليط الضوء على شعر الحداثة المصري، والدفاع عنه ضد ناكريه من أصحاب الذائقة التقليدية وأهل المدرسة الجامدة في الفن والفكر والحياة. ومن العجب أن بعض شعراء الحداثة السبعينية كانوا من المشاركين في حفلة الهجوم المستمر على ادوار الخراط، بينما كان عليهم ان يقدموا له العرفان والامتنان، على تلك المبادرة الكبيرة التي جرت عليه - وما كان أغناه - سخط التقليديين والشعارير والاكاديمي.