أسعدت اللجنة المشرفة على إصدارات"مكتبة الأسرة"الهيئة المصرية العامة للكتاب كثيرين بالإعلان أخيراً عن خطة لنشر شعر السبعينات جماهيرياً، ولكن يبدو أنها استكثرت عليهم هذه"السعادة"فسارعت إلى نشر كتاب كمال نشأت"شعر الحداثة في مصر: الابتداءات والانحرافات والأزمة"، وهو كتاب ملفق بلا منهج فشل كاتبه في العثور على أسباب موضوعية تبرر رفضه قصيدة النثر، فاتحد مع الأمة والتراث واللغة، متملقاً مشاعر من لا يقرأون الشعر بأحكام أخلاقية وتعريض رخيص، وتعامل مع قضية شائكة بخفة خطيرة لا يحتملها مستوى تلقي الإبداع عربياً. استهل الكاتب موضوعه بحكم نهائي بأن الحداثة الشعرية المصرية صورة مشوهة عن حداثة أدونيس، التي هي صورة مشوهة أيضاً عن حداثة الغرب، واعتبر كل الشعراء بعد العام 1967 مقلدين له، على رغم أنه لم يدرس كل شعر الحداثة في مصر، ولا رصد كل متغيراته ومؤثراته طوال هذه السنوات، بل عرض مقاطع وجملاً متفرقة من قصائد في بضعة دواوين وبضع دوريات أدبية، من دون التزام بشهرة الشاعر. فهو بحسب قوله يدرس تياراً شعرياً عاماً لا صفوة شعراء ما دام النص منتمياً الى الحداثة. غير أن الكاتب لم يبين الأسس التي اختار بموجبها بعض شعراء السبعينات، ليجعلهم ممثلين لشعر الحداثة في مصر، ولم يكن أصيلاً في تحديد كيفية انتماء"عيّنة"نصوصه الى الحداثة، بل اعتمد خصائص استخلصها نقاد آخرون من نصوص مختلفة عن نصوصه، وانطلاقاً من توجهات فكرية مختلفة. بدت المعاظلة في تناول موضوع التأثر بين الشعراء سمة بارزة على مدى الكتاب كله، وبُنيت عليها فصول كاملة، كما في فصل"الإيقاع"حيث يقرر الكاتب أن خاصية تكرار حروف بعينها في القصيدة نادرة في شعر أدونيس، ومع ذلك أخذها عنه شعراء الحداثة من المحيط إلى الخليج. وفي فصل"المعجم الشعري"نجد مفردات اتفقت في شعر المصريين وأدونيس، كالمرايا والقطار والبرتقال، لكنه لم يقارن ملامح ظهورها لدى الجميع، ولا دلالات علاقاتها التصويرية في السياقات الكلية، إنما اعتبر الاتفاق وحده دليلاً دامغاً على التقليد. والعجيب أنه يصر على الحكم ويستخدم الدليل نفسه عند خلو شعر أدونيس من المفردة، أو ندرتها، كما فعل في نموذج"البرتقال"وخلاصته أن جميع الشعراء المصريين برتقاليون! من أكثر فصول الكتاب اضطراباً فصل"الغموض"الذي مهد له نشأت بقول أدونيس:"غموضاً حيث الغموض أن تحيا/ وضوحاً حيث الوضوح أن تموت"، معتبراً إياه، بعد تفسير سطحي، مجرد بيان على عشق الغموض الفارغ، ثم أتبعه بحكاية أدبية من عهد الحرب العالمية الثانية عن قصيدة للشاعر بشر فارس، وأشار إلى غموض شعراء غربيين، واستطرد في الحديث عن اتجاهات أدبية مختلفة ومسرح اللامعقول، مكتفياً بالعرض الإخباري المضطرب، متجاهلاً بحث الصلة بين ذلك كله وعلاقته بموضوع الكتاب، ومعتمداً أدلة غير وجيهة ومنطقاً متهافتاً. وأكثر الكاتب مثلاً من ذكر توماس ديلان، وبرر ذلك بمحاولة الربط بينه وبين حلمي سالم من جهة غموض شعرهما وحيرة النقاد أمامه. ورأى أن هذه الحيرة مؤشر على اتباعية الشعر المصري لأصول غربية، مع ملاحظة أنه لم يدرس شعر ديلان ولا شعر سالم، ولم يخضعهما للمقارنة، بل كرر أحكام الناقد الإنكليزي إيلدر أولسون على شعر ديلان، مرتكزاً على ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. كان النقل عن آخرين إذاً منهجاً ثابتاً في كتاب"شعر الحداثة في مصر"، بخاصة عن مقالات إبراهيم حمادة وأحمد درويش، اللذين استتر الكاتب وراء آرائهما في قصيدة النثر، فضاع صوته بين نقول مطولة - بلغت أحياناً خمس صفحات - وتبريرات بالرغبة في إكمال الصورة التي رسمها النقاد، وتخبطات بين الشرق والغرب في محاولة يائسة للعثور على ما يؤيد أحكامه القاطعة، معتمداً فحسب السخرية والاستنكار وتشبيه الشعر بنوادر أبي لمعة المصري، إضافة إلى نماذج مقتطعة من سياقاتها وغير مناسبة للاستدلال. وقع الكاتب في فصل"النقد الحداثي"في ما عابه على غيره من النقاد، حين تعرض إلى تقصيرهم في مواكبة حداثة الشعر المصري، وحدد التقصير في النقاط الآتية: عدم اقتحام عمق القصيدة، إلقاء أحكام عامة تمثل تعاليم الحداثة نفسها، تحول النقد ذيلاً هامشياً يلتصق بالنصوص. وجاء بمثال زاعق، بحسب تعبيره، لهؤلاء النقاد هو الناقد السوري كمال أبو ديب، ولم يستند الى أي من أعماله المتوافرة، بل نقل فقرات من مقال لإبراهيم حمادة يتضمن رأياً فيه، وفقرات أخرى من مقال سمير سرحان عن أخطاء البنيوية، ثم أتبع النقول المطولة بإشارة إلى دخول علم النفس مجال التحليل الحداثي، وأن القصيدة أصبحت مشجباً يعلق عليه الناقد معلوماته. واستشهد بمقال شاكر عبدالحميد عن قصيدة لمحمد سليمان، أورد المقال والقصيدة معاً، متهماً شاكر باعتساف التحليل وإقحام نفسه في ميدان جديد معلوماته فيه متواضعة! لا أظن ان الكاتب عالج تقصير النقاد بوضع أفكارهم في سياق مشوش يفتقد الرؤية والتركيز، اذ يكفي استشهاده المطول ص271 بحوار مع القاص محمد المنسي قنديل يتكلم فيه عن الحداثة في القصة، وجعله رواية"الزمن الآخر"لإدوار الخراط في قائمة المصادر والمراجع، على رغم عدم ذكرها في الكتاب، للدلالة على التلفيق والخفة في درس علاقات التأثر بين الشعراء، وممن؟ من عضو في لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة وكاتب كان شاعراً! إن إعادة نشر كتاب"شعر الحداثة في مصر"في طبعة جماهيرية، بعدما صدرت طبعته الأولى عن الهيئة العامة للكتاب سنة 1998، دليل آخر على أن مؤسسات وزارة الثقافة بلا ذاكرة، فقد نسيت أن الشواهد الشعرية وحدها في كتاب إدوار الخراط، الذي يحمل عنوان كتاب كمال نشأت نفسه، كانت مدار بيان علماء الأزهر ومقالات محمد عباس التي أججت تظاهرات الطلبة عام 2000، بعد اتهام الوزارة بإصدار مطبوعات لرموز تغريبية تستهدف خصائص الأمة في العقائد والأخلاق، فما بالنا بكتاب كامل مكرس لتشجيع الاحتراب وإساءة فهم الشعر!.