ذكرني الشاعر الفرنسي الشيوعي فرنسيس كومب حين قرأتُ مجموعته الجديدة"قضية مشاعة"بأحوال جيلنا الشعري العربي الماركسي في الخمسينات مع فارق ان الشاعر الفرنسي وهو لا يزال ملتزماً يخطو نحو ان يلعب دور الشاهد الموضوعي وليس الداعية على دراما بشرية كبرى لانهيار المشروع التطبيقي للإيديولوجيا التي آمن بها، في حين ان جيلنا وقد فقد أعزّ مشروع له لم يعد يهتم كثيراً بأن يكتب شعراً يخدم أحلامه على الأقل كهذا الشاعر الفرنسي الشجاع كما بدا لي في مجموعته الضخمة الآنفة الذكر والتي تضم 352 صفحة من القطع المتوسط والحروف الصغيرة، الموزعة على مئتي قصيدة بالتمام والكمال. ولعل خير ما يلخّص هذا الكتاب الكبير كرؤية عامة للمشهد بعد انهيار المنظومة الاشتراكية مقطوعة قصيرة لماحة عنوانها"الافتتاح"يقول فيها:"عندما فُتحت الأبواب/ وفتحت النوافذ/ انهار المنزل/ فلمن نوجّه الاتهام؟/ للمهندس؟/ أم لمواد البناء؟/ أم للعمال الذين شيّدوه؟/ أم الى من فتح النوافذ؟!". واضح ان هذه الأسئلة تتضمن أجوبتها، وبهذا المعنى فإن الشاعر يوجه اتهامه الى جميع الذين شاركوا في بناء المنظومة السوفياتية السابقة بدءاً من المهندس - لينين ورفاقه - الذي رسم مخطط البناء"الثوري"الى القرارات التي أصدرتها السلطة الجديدة لتحقيق المشروع، فإلى الموظفين الذين قاموا بتنفيذ هذه القرارات فإلى جماعة البيروسترويكا - غورباتشوف وأنصاره - التي سمحت بفتح الباب المغلق - والنوافذ - على مصراعيه للحريات العامة المصادرة منذ سبعين عاماً! ومن هنا نكون قد أحطنا تقريباً بمُجمل موضوعات المجموعة التي حاول الشاعر الفرنسي من خلالها احتواء المشهد بأكمله وتوزيع المسؤوليات عن حدوثه بلغة شعرية مكثفة ممتعة في تنويعات مجازاتها وتلميحاتها عميقة في مغزاها من دون ان تقع في مطب الدعاية أو الخطابية المباشرة... في بند المهندس مثلاً أو اشخاص القيادة المركزية يتوقف فرنسيس كومب على اسماء كثيرة من أقدم العصور الى أقربها بدءاً من سقراط وديموقريط ومروراً بماركس وماو ولينين وستالين الى زاباتا وآخرين مداعباً صورتهم بأداء شعري ماكر لمّاح الذكاء من دون أن يلعب دور القاضي او الجلاد، مكتفياً بدور الشاهد الصديق العاتب والعارف جيداً ماذا عليه ان يقول في محكمة التاريخ. في قصيدة"صورة ستالين"مثلاً يصف أولاً في مطالعها الضجة الفضائحية التي نشبت بين الشيوعيين الفرنسيين يوم نشر"بيكاسو"- الذي كان شيوعياً ثم ترك - صورة رسمها لوجه ستالين صبيحة وفاته عام 1953 في الصفحة الأولى من مجلة"الآداب الفرنسية"التي كان يترأس تحريرها الشاعر المعروف"أراغون". كانت الصورة تمثل وجهاً جيورجياً قاسي الملامح والنظرات بشاربين كثيفين شديدي السواد - أذكر أنا شخصياً هذه الصورة والضجة التي حدثت بسببها وكنت من المعارضين لها مع الأسف الشديد! - مما أثار امتعاض الحزبيين الذين احتجوا بشدة على تصوير زعيمهم"المحبوب"بهذا الشكل الفجّ - في رأيهم - مما اضطر أراغون الى الاعتذار، وبيكاسو الى تقديم"نقد ذاتي"لعمله - إنقاذاً لصديقه أراغون كما أتصور -. تقول القصيدة بعد هذا المدخل الشعري"التاريخي"الحافل: " ربما كان بيكاسو الرسام الثوري/ ينقّب مسبقاً في هذه الصورة/ تحت قسمات الوجه الشاب/ عن هيجان الديكتاتور المقبل/ أو أنه اذ اختار عنفوان شباب ستالين لتصوير وجهه/ كان يرسم الحلم الذي لم يتحقق/ أو صورة الثورة قبل الإيقونات/ حين كان كل شيء يبدو ممكناً!...". وفي قصيدة"قبر ماركس"حيث يقول بعد مقطع يصف فيه هجوم الثوار على قصور الأغنياء:"... لقد فتحوا كثيراً من ورشات العمل/ ولكن... من بين المناضلين/ برز بعضُ مريديك/ فشيّدوا من جديد قصوراً/ وأقاموأ أبراجاً صعدوا فوقها/ أيام الاستعراضات الجماهيرية/ كي يستدرّوا تصفيق الشعب/ ويحتموا منه في الوقت ذاته...". الى ان يقول:"...أبداً لم يُصدر هذا الرجل ماركس/ أمراً الى الجيوش/ ابداً لم يُشيّد لنفسه القصور/ ولم يدرُج في سيارة سوداء/ لقد اكتفى بأن يطرح هذه الأسئلة المفيدة/ من الذي يملك ويُنتج؟/ من يقود ويستفيد؟...". وغنيّ عن البيان ادانته لستالين كقائد استبدادي متطرف في هيجانه القاسي، في حين نراه يدافع عن ماركس كمنظر وليس كحاكم عنيف مولع بالأبهة والترف والسيارات الفارهة السوداء. وفي البنود الأخرى يقول مثلاً في قصيدة"حول الوسائط والغايات"بعد مقطع عن خطر استخدام القوة والعنف والخداع في بناء المجتمع الجديد: "... وفي هذه الحال حذار ان تغدو القوة، والعنف، والكذبُ/ هي المنتصرة وحدها..."... وهو نقد صريح للمضاعفات السيئة في التطبيق والناجمة عن المبالغة في استخدام العنف والاستمرار في ممارسته. وحين يتصور فرنسيس كومب المستقبل لا يتأخر عن تصوير المشهد الذي يراه للتاريخ البشري كحلم بعيد لم يتحقق، ولن يتحقق، وإنما عظمة الإنسان هي في سعيه لمقاربة الحلم وليس في تحويله الى واقع أو الى فردوس ارضي كما في قصيدة"جنة عدن": "على مدى الأزمان كلها/ الهدفُ الأخير هو ذاته/ ان نحيا في حديقة/ حيث يغدو الإنسان اخيراً/ صديقاً للإنسان/... حديقة لم نبلغها ابداً/ ولكن على طرقات العالم الوعرة، وسط الحروب والمجاعات، كان هناك دائماً سفارة لسعادة آتية/ حيث تتقاطع الكروم والورود...". تستحق هذه المجموعة دراسة اعمق وأطول بالتأكيد لا يسمح بها المجال المتاح، ولكن ما من شك ان خير ما تمنحنا إياه من عبرة في المضمون والشكل معاً ان الموهبة الشعرية الأصيلة قادرة على احتواء قضايا زمنها من دون ان تتهم بالتقصير أو الركاكة وخصوصاً حيال حدث زلزالي كانهيار منظومة الدول السوفياتية. لقد انهار في نظر"فرنسيس كومب المنزل حقاً، ولكن من دون ان ينهار الراغبون بإخلاص في إعادة بناء المنزل المتهدم. صحيح ان هذه الرغبة ليست اكثر من حلم، غير ان البشر لا يسعهم ان يتابعوا عيشهم من دون ان يحلموا. تلك هي نواة الدراما الأساسية لمجموعة"قضية مشاعة": الخروج من الأنقاض لإعادة بناء المنزل المتهدم من جديد مع العلم انه سينهار ذات يوم قريب!