يدعو مأزق ارتهان المجتمعات العربية لنظم حكم الاستبداد والفساد القائمة، البعضَ إلى اليأس من إمكان تحول البلدان العربية تجاه الحرية والحكم الصالح في مدى زمني مقبول القصر. ويشير البعض الى أن عملية التحول الديموقراطي قد استغرقت قرونا في معاقل الحرية والديموقراطية القائمة الآن في الغرب، ولعلها لم تكتمل بعد. وهذا صحيح في المجمل. إلا أن هناك استثناءات مهمة ذات أهمية خاصة لحالة البلدان العربية. وللتمهيد للاستثناء الذي أود أن أعرضه أشير إلى خبرة خاصة. فلطالما شعرت بقرب خاص بين إسبانيا والبلدان العربية لأسباب معروفة، إذ نضحت تجربة التعايش التاريخي بعوامل تقارب مهمة، تجد لها تعبيرات مختلفة، أذكر منها مثلا حضور أصول عربية في اللغة الإسبانية الحالية، ومشاركة رئيس الوزراء الإسباني في القمة العربية في الجزائر 2005 في حين غاب عنها، كليا أو جزئيا، بعض قادة عرب. وبالإضافة الى ذلك، سنحت لي فرص لعرض ومناقشة تقرير"التنمية الإنسانية العربية"في أكثر من محفل في إسبانيا مع خبراء ومفكرين إسبان. ولا يغيب عن ذهني أبدا تعليق بعض أؤلئك المفكرين اللاحق لعرضي لمحتوى التقرير، ومضمونه"أنت، في الواقع، تصف حال إسبانيا في نهايات حكم الجنرال فرانكو". وكنت غالبا أتمتم"ربّنا يسمع منكم!". فقد تحولت إسبانيا من حكم استبدادي بغيض، وبالغ الطول، إلى ملكية دستورية ديموقراطية، وقد أنجز ذلك التطور الهائل خلال شهور عامين تقريبا! ولم يتطلب قرونا! فلماذا لا نتأسى، ونحيي الأمل، في الوطن العربي بهذه التجربة الفريدة والقريبة، جغرافيةً، وإلى حد ما، ثقافةً. ولنقارن سلسلة الأحداث التالية بالأحوال في بلد عربي محوري مثل مصر! ولن يخفى على القارئ الحصيف مغزى الأحداث التي جرت في إسبانيا للواقع العربي الراهن. هذا مع ملاحظة أن التحولات الجذرية التي جرت لتحول إسبانيا من الاستبداد إلى الديموقراطية تمت كلها حين كان البلد، وما زال، يعد من بين الدول الأقل نموا في الاتحاد الأوروبي! وفي ثبت بالأحداث المحورية للتحوّل بالاستعانة بكتاب بول بريستون، الصادر في 2004، عن دبليو دبليو نورتون بنيويورك، JUAN CARLOS, Steering Spain from Dictatorship to Democracy نلاحظ التالي: - موافقة"المجلس الوطني"على قانون الجمعيات السياسية 16 كانون الأول/ديسمبر 1974. - فرانكو يظهر علنا لآخر مرة، في العيد التاسع والثلاثين لرئاسته للدولة أول تشرين الأول/أكتوبر 1975. - على فراش الموت، فرانكو يعين ابنته كارمن خليفة له! - وفاة فرانكو 24 تشرين الأول 1975. - تنصيب خوان كارلوس ملكا 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1975. - تجمع مؤشرات على غموض المستقبل منتصف 1976. - اليسار ينظم تظاهرات ضخمة من أجل الحريات السياسية والعفو عن المسجونين السياسيين الأسبوع الثاني من تموز/يوليو. - رئيس الوزراء سواريز يتبنى استراتيجية السرعة للتغلب على عوامل استمرار مؤسسة فرانكو. - سواريز يقدم إلى المجلس الوطني التعديلات القانونية اللازمة لحرية الأحزاب 14 تموز 1976. - تفاقم إضرابات المعارضة في محاولة ضبط مسيرة التحول. - إعداد مسودة قانون الإصلاح السياسي 23 آب/أغسطس 1975. - جبهة المنظمات الديموقراطية تطالب بضرورة إطلاق حرية الأحزاب وإنهاء احتكار الحكومة للإذاعة المسموعة والمرئية 4 تشرين الثاني 1976. - مناقشة قانون الإصلاح السياسي في المجلس النيابي 16-18 تشرين الثاني 1976. - الموافقة على قانون الإصلاح السياسي بأغلبية 95 في المئة 15 كانون الأول 1976. - المحكمة العليا تقضي بشرعية الحزب الشيوعي 8 نيسان/ إبريل 1977. - إجراء الانتخابات النيابية تحت القانون الجديد 15 حزيران/يونيو 1977 - افتتاح المجلس النيابي الجديد 22 تموز 1977. - تقديم الدستور الجديد إلى المجلس النيابي حزيران 1978. - التصديق على الدستور الجديد 31 تشرين الأول 1977 * تعقيب خاطف: لا يخفى، كما أسلفت، مغزى سلسلة الأحداث الإسبانية لخصائص الواقع الراهن واحتمالات المستقبل، في أكثر من بلد عربي مهم، ومصر مَثَل. فقط أنهي هذا المقال بالتركيز على خمسة من أهم الاستخلاصات الممكنة. الأول هو أهمية إطلاق حريات التنظيم في المجتمعين المدني والسياسي، وهو المشهد المفتتح لمسيرة الازدهار الإنساني في الوطن العربي، حسب تقرير"التنمية الإنسانية العربية"الثالث. والثاني هو ميل النظم الاستبدادية لتوريث السلطة، حتى خارج نطاق الملكية، وإن كان الدرس الإسباني هنا هو أن حركة مجتمعية قوية يمكن أن تحول دون ذلك. والثالث هو الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه ممارسة حق التنظيم في شقه الخاص بالتجمع التظاهر والإضراب وصولا إلى العصيان السياسي والمدني، في مواجهة أنظمة الاستبداد. والرابع هو الضرورة الملحة لإصلاح التمثيل النيابي ما دامت تقوم مجالس نيابية. والأخير، وحتما ليس آخرا، هو دور القضاء الوطني في رعاية عملية التحول الديمقراطي وحمايتها.