أمر قاضي المحكمة الوطنية بالتاسار غارثون في 26 آب اغسطس الماضي بإقفال كل المراكز التي يملكها ائتلاف "باتاسونا"، الذراع السياسية لمنظمة "ايتا" الباسكية الانفصالية في اسبانيا لمدة ثلاث سنوات بعدما علّق نشاطات هذا الحزب في اطار عملية "مكافحة ارهاب ايتا ومؤيديها" التي بدأها عام 1998. وهذه المرة الأولى يتم حظر حزب سياسي منذ عودة الديموقراطية الى اسبانيا عام 1977. وجاء القرار بعدما صادقت الحكومة والبرلمان الاسبانيان بالاجماع في حزيران يونيو الماضي على قانون ينظم نشاطات الاحزاب السياسية ويحدد دواعي حظرها، ومن بينها "تأسيس أو دعم أو تبرير العمليات التي تودي بحياة المواطنين وتشجيع او الاستمالة الى العنف واستعماله من اجل اهداف سياسية"، وبعدما أدرج الاتحاد الاوروبي المنظمة الانفصالية على لائحة الارهاب. وحجز القاضي الاسباني اموال الائتلاف في الداخل والخارج والمساعدات الحكومية التي يتلقاها منذ عام 1980 كونه حزباً سياسياً بعدما قدّر الاضرار التي تسببت بها اعمال العنف التي يقوم بها مؤيدوه بقيمة 24 مليون يورو. وأدى القرار الى تظاهرات نظمها الائتلاف المحظور وتغاضت عن بعضها الشرطة الباسكية التابعة للحكومة الاقليمية التي يرأسها الحزب القومي اليميني المتآلف في بعض مناطق الباسك مع "باتاسونا" الذي يضم بين قادته ماركسيين سابقين ويساريين متطرفين وبعض افراد ايتا. ووصلت الامور الى مفترق خطر بعدما هدد رئيس الحزب القومي الحاكم في الاقليم خافيير ارثايوس بانتفاضة شعبية وادعت حكومة الاقليم وبرلمانه على القاضي "بمخالفة واجباته المهنية والاسراف فيها". فالحكومة الباسكية لا تؤيد، اقله علناً، عمليات "ايتا" للحصول على استقلال هذا الاقليم الذي تتقاسمه اسبانياوفرنسا ويتمتع بحكم ذاتي في اسبانيا يفوق بصلاحياته ما ستحصل عليه ايرلندا الشمالية ولا يصل الى مستواه اي حكم ذاتي في العالم، ولكنها تطالب بالبحث عن آليات ديموقراطية مختلفة، ويساعدها ما تقوم به "ايتا"، على رغم ادانتها له، على تحقيق اهدافها. وتعتبر "ايتا" آخر المنظمات الأوروبية التي تتوسل العنف لتحقيق أهدافها، وكل اسباني تحت ال30 من العمر لم يعرف العيش من دون "ايتا" التي قتلت خلال هذه المدة اكثر من 800 شخص فيما يقبع نحو 1000 من اعضائها في سجون اسبانياوفرنسا. وتعود انطلاقة الحركة الى عهد حكم الجنرال فرانكو الديكتاتوري وتحديداً في 31 تموز يوليو عام 1959 عندما أسست مجموعة من الطلاب الراديكاليين المنشقين عن مجموعة "ايكين" التي كانت موجودة منذ عام 1952 منظمة تسمى باللغة الباسكية: Euskadi Ta Askatasuna أي "حرية الباسك"، في ما اعتُبر آنذاك خياراً آخر لعقيدة الحزب القومي الذي يحكم اليوم في الاقليم. وتتمثل اهداف الحركة الاساسية في الدفاع عن اللغة الباسكية "اوسكيرا"، وتطبيق السلالية كمرحلة للتغلب على العنصرية، ومكافحة التعلق بالاسبانية حضارة ولغة، واستقلال المحافظات التابعة لبلاد الباسك اوسكادي في فرنساواسبانيا. ونفذت الحركة أولى عملياتها في 18 تموز عام 1961 عندما حاولت اخراج قطار ركاب عن سكته كان ينقل شباناً من اتباع فرانكو الى العاصمة الباسكية سان سيباستيان للاحتفال بذكرى الانتفاضة التي قام بها الجنرال وأوصلته الى الحكم. وشنت الشرطة الاسبانية حملة لاعتقال زارعي المتفجرات في الشوارع ومن كانوا يكتبون على الجدران "عاشت اوسكادي" أو يرفعون اعلام الباسك تنفيذاً لافكار فرانكو الذي كان يشدد على انه لا يريد ان يرى "اسبانيا حمراء شيوعية أو مفككة". وفي ايار مايو عام 1962 عقدت "ايتا" مؤتمرها الاول وتبنت تسمية "الحركة الثورية الباسكية للتحرير الوطني"، ورفض المؤتمرون التعامل مع احزاب غير قومية باسكية وقرروا "العمل الثوري السري المبني على الكفاح المسلح من اجل استقلال بلاد الباسك". لكن الحركة لم تلفت اهتمام المجتمع الاسباني حتى 20 كانون الأول ديسمبر عام 1973 عندما اغتالت رئيس الوزراء كاريرو فرانكو بسيارة مفخخة، ثم زرعت بعد تسعة شهور عبوة في احد مقاهي العاصمة قرب مديرية الأمن تسببت في مقتل 12 شخصاً. ولم توقف "ايتا" عملياتها بعد وفاة الديكتاتور فرانكو عام 1975، وشهدت أواخر السبعينات مرحلة دموية لم يسبق لها مثيل على رغم العفو الذي صدر عام 1977 وشمل كل افرادها المعتقلين ايام فرانكو. وفي الثمانينات نفذت "ايتا" عمليات ضخمة أودت احداها بحياة 21 شخصاً في احد المخازن دفعة واحدة. واستخدمت "ايتا" أساليب متنوعة في عملياتها مثل السيارات أو الدراجات المفخخة وزرع العبوات واطلاق النار، واستهدفت خصوصاً رجال الأمن العاملين في مقاطعة الباسك وخارجها واعضاء البلديات من دون ان يسلم المدنيون في أحيان كثيرة من أذاها. لكن ذلك لم يحل دون تمكن بعض افرادها من الترشح الى الانتخابات ودخول البرلمان المحلي أو بلدية مدينته والتمتع بالحصانة النيابية وحضور الجلسات الى جانب ابن أو أرملة من قتل قبل سنوات. ولم يدن أي عضو من "ائتلاف باتاسونا" أو من محيطه عمليات القتل لا بل قاموا بتبريرها ما دفع بالقاضي غارثون الى اصدار حكمه الاخير في حق الاحزاب التي تشكل الائتلاف قسم منها غيّر تسميته مرات عدة. وكما شهدت مرحلة الثمانينات هدنات عدة أهمها تلك التي تلتها مفاوضات اشرفت عليها الجزائر بين حكومة اسبانيا وبعض المبعدين من منظمة "ايتا" الى هذا البلد العربي، اضافة الى ظهور منظمة "غال" التي اشرفت على تكوينها تيارات في وزارة الداخلية آنذاك انكشف أمرها في ما بعد فحوكم المسؤولون عنها بينهم جنرالات وما زالوا نزلاء السجون بسبب مكافحتهم "ايتا" بالطريقة نفسها التي كانت تعمل بها اغتيال وخطف.... كذلك شهدت التسعينات، على رغم ارتفاع حدة العنف خلالها، هدنات عدة ايضاً أهمها في تموز 1992 بعد اجتماعات في جمهورية الدومينيكان شارك فيها ممثلون عن الحكومة وعن المنظمة واخرى لأربعة اشهر اعتباراً من آب عام 1998 ودامت نحو سنة. ومنذ تأسيسها، تمكنت "ايتا" من تمويل نشاطاتها من طريق فرض "ضرائب الحرب" على مصانع وشركات اقليم بلاد الباسك وخطف الاثرياء وقبض الفدية لقاء اطلاقهم والاتجار بالمخدرات بحسب ما اكد أخيراً احد "التائبين" من افراد المافيا الايطالية الذي قال ان "ايتا" كانت تزودهم بالمخدرات في مقابل الاسلحة. وتصل نفقات المنظمة بحسب مصادر الحكومة الاسبانية الى نحو 100 الف يورو يومياً، وهي تدفع معاشات افرادها ومساجينها ونفقات عائلاتهم. واعتقلت فرنسا اخيراً عضوين في المنظمة تعتبرهما اسبانيا زعيميها، لكن عمليات اعتقال مشابهة حصلت مراراً في السنوات السابقة من دون ان تؤثر في شكل قوي في بنيتها وهيكليتها بفضل تكوينها غير الهرمي. لكنها تأثرت اثر ضرب جهازها التمويلي، خصوصاً بعد أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 اثر وضع اسمها على لائحة الارهاب الأوروبية وملاحقة الشركات التي لها علاقة مالية معها بما فيها تلك التي تدفع الضرائب رغماً عنها. وبعدما نشرت وسائل الاعلام الاسبانية استطلاعاً للرأي يؤكد ان 67 في المئة من الاسبان يرغبون في استعادة الحكومة المركزية الرئيسية للسلطة في اقليم بلاد الباسك اصبحت امكانية انشقاق هذه المقاطعة التي تمتد جغرافياً بين ثلاث محافظات وجزء من محافظة رابعة اسبانية اضافة الى جزء آخر من فرنسا وانفصالها عن اسبانيا امراً يمكن التفكير به على رغم صعوبته وسلبية نتائجه على الباسك والفرنسيين والاسبان. واذا كان ذلك لا يعني ان الوضع في الشمال الاسباني يواجه احتمال حرب أهلية بين الاسبان والباسك أو اندلاع انتفاضة شعبية ضد الحكومة المركزية ومؤسساتها، الا انه لا يمكن الجزم بعدم امكان حصول ذلك، خصوصاً ان حكومة الباسك وبعض احزابها بدأت بمخالفة الدستور وقانون تنظيم الحكم الذاتي برفض الاحكام القضائية للدولة المركزية والتشكيك في صلاحياتها والتمرد عليها.