سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
40 سنة على دوامة "الثورة الثقافية البروليتارية الكبيرة" في الصين وانتشار مثالها في انظمة وحركات سياسية كثيرة . استعادة السلطة من طريق تدمير الحزب والدولة والهيئات الاجتماعية
في شتاء 1966، قبل أربعين عاماً، أفاق شطر من الصينيين، قريب من السلطة الحزبية الشيوعية وردهاتها وأروقتها الداخلية والسرية، على نذر إعصار سياسي واجتماعي لم يلبث ان عرف باسم"الثورة الثقافية البروليتارية الكبيرة"، وضرب معظم الصين، وخلف دماراً كبيراً في مجتمعها وأهلها وثقافتها. وبدأت النذر هذه على شاكلة غيوم أو سحب متفرقة. فإحدى هذه السحب دعوة وزير الدفاع، المارشال لين بياو، زوجة ماوتسي تونغ، الممثلة السابقة ومنظمة تظاهرات مسرحية وغنائية في أوبرا بكين بيجينغ، الى الإشراف على مصلحة الشؤون الثقافية في جيش التحرير الشعبي، على ما يسمى الجيش الصيني الى اليوم. وعهد وزير الدفاع الى السيدة ماو بإحياء حركة مناهضة"للفكر الإقطاعي والرأسمالي". وفي الأثناء، كان عمدة العاصمة الصينية بينغ تشيني، وهو أحد أعيان الحزب وراعي مثقفين بارزين، على رأس فريق حزبي ندبته اللجنة المركزية قبل سنة ونصف السنة الى النفخ في"ثورة ثقافية". وانتهى"فريق الثورة الثقافية"، على ما سمته اللجنة، الى"موضوعات شباط"فبراير 1966. وذهبت"الموضوعات"الى ان"صراعاً هائلاً"يدور بين"فكر ماوتسي تونغ"، من ناحية، والأفكار البورجوازية، من ناحية ثانية. والحق ان الأسماء هذه،"فكر ماوتسي تونغ"وپ"الأفكار البورجوازية"وپ"الإقطاعية"وأخرى لاحقة مثل"التحريفية"، على إبهامها وعمومها وتمثيلها على أقانيم لا خلقة لها للوهلة الأولى، كان يراد بها، وتعني تالياً، اشخاصاً ومواقع وروابط وحوادث دقيقة، ولا لبس في دلالاتها وأدوارها. فإحدى"الأفكار البورجوازية"التي قصر"فريق الثورة الثقافية"أو فريق عمدة بيجينغ في محاربتها والانتصار عليها، وسحقها، أي كان مواطئاً لها ونصيراً، على المذهب"الجدلي"الماوي، فكرة أحد أنصار عمدة بيجينغ ومواليه، المدعو ووهان. وكان ووهان هذا أستاذاً لمادة التاريخ في جامعة يونان، معقل الثورة الصينية وعاصمتها قبل الاستيلاء على العاصمة، وصاحب كتب في سلالة مينغ الأمبراطورية، ثم نائب العمدة طوال نحو العقدين 1949 - 1966. وتوسل بمادة التاريخ، وبعض شخوصه، الى كتابة مقالة رسمها بعنوان"هاي رْوي اسم احد كتّاب ووزراء عهد مينغ يعظ الأمبراطور"، على معنى العظة الشديدة والتوبيخ. وأتبع مقالته الصحافية هذه بأوبرا، على النمط البكيني التقليدي،"عزل هاي روي"، أو محنته على المعنى العباسي البرمكي، في 1961. ولم يخفَ معنى الإشارة: المحنة هي جواب الامبراطور المتأله والمستبد عن جرأة الوزير الكاتب على موعظة صاحب السلطان. وفي عبارة اخرى:"ابن السماء"، وهي كنية الامبراطور الصيني، لا يقبل القول الذي ينبهه الى غيّه، وينزله من عليائه الى الأرض."وابن السماء"هو ماوتسي تونغ، حاكم الصين الأوحد. وهاي رْوي هو وزير الدفاع السابق بينغ دوهويه الذي حل محله لين بياو، رجل ماو وظله، وتلبية لإلحاح ماو نفسه ونزولاً على رجائه غداة إبعاده عن السلطة الفعلية والنافذة، في 1959. وكف يد ماو كان الوثبة الى امام، في 1957 - 1959 وخسائرها الفادحة في الزارعة والصناعة الصينيتين، والمجاعة المدمرة التي لابستها وتبعتها. واضطر الرئيس ماو الى إخلاء منصب أمانة الحزب الحاكم العامة، قلب القرار الحزبي، الى دينغ هسياو بينغ،"الرجل الضئيل"الذي تنبأ له ماو بصنيع"أشياء عظيمة"، وإلى ترك منصب رئيس الجمهورية الى ليو تشاوتشي، وهو لقّبه الرئيس بپ"خروتشيف الصيني"قبل ان يعزله ويودي به الى الموت برداً في المنفى. ونصّب أقران ماو قائدهم وصاحب استيلائهم على الحكم، بعد تجريده من مقاليد الحكم، رئيساً فخرياً على الحزب. وكان التجريد هذا، في عقد اللجنة المركزية في لوشان 1959، ابتداء حرب ماوتسي تونغ على الحزب الشيوعي الصيني الحاكم وطاقمه في سبيل استعادة السلطة تحت ستار"الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى". وسبقت سحابة تولية"مدام"ماو، ومن ورائها زوجها، مصلحة الشؤون الثقافية في الجيش، وطعنها على"فريق الثورة الثقافية"الذي ولته اللجنة المركزية قيادة حرب"فكر ماوتسي تونغ"على"الأفكار البورجوازية"، سحابة اخرى لا تقل غموضاً عنها. ففي اوائل تشرين الثاني نوفمبر 1965 نشرت احدى صحف شانغهاي، المدينة الصناعية والعمالية الساحلية، مقالة وقعها صحافي يساري"راديكالي"يدعى ياو وينيووان، عرف بمهاجمته اللاذعة المثقفين في اثناء حملات"التصويب"على"الانحراف اليميني"التي قادها ماو في خلوته الاضطرارية منذ 1959. وكانت السيدة ماو اختارت صحافي شانغهاي، وأوصته على مقالة من عشرة آلاف كلمة في مثالب مسرحية ووهان وأوبراه. وكتب ياو مقالته عشر مرات طوال صيف 1965. ونظر ماو في الصيغ الثلاث الأخيرة، ونقحها وهذبها بقلمه. ولما كانت الصحافة المركزية، صحافة العاصمة، في قبضة"طغاة الحزب"، على ما سمى الرئيس الفخري الفريق الحاكم وأنصاره من حزبيين كتاب، نشرت المقالة، على سبيل التقية والحذر واستباق التنصل حين الاضطرار، في صحافة ثانوية. ولكن مضمونها السياسي لم يلتبس على أحد. فهي تطعن في انحياز صاحب الأوبرا الى موعظة الوزير الكاتب، ودفاعه عن المزارعين الفلاحين، وعن امتلاكهم الأرض ملكاً خاصاً وعائلياً. وكانت السياسة الزراعية، أو"المسألة الفلاحية"في الرطانة الحزبية الشيوعية، في أعقاب"الوثبة"ومجاعتها، موضوع الخلاف السياسي والاجتماعي الذي ادى الى كف يد المرشد والقائد الصيني، وحلول ليو تشاوشي ودينغ هسياو بينغ في المنصبين النافذين. وسرعان ما أسفرت الحرب"الثقافية"عن وجهها. فحظر عمدة بيجينغ نشر المقالة الصحافية"الفنية"في صحافة العاصمة، وأولها"صحيفة الشعب اليومية". فجمع رئيس الوزراء، شوان لاي، وهو مساعد ماو الإداري ومفوضه الى التدبير اليومي وپ"البيروقراطي"، بعض معاوني العمدة، بإيعاز من ماو نفسه، وماشاهم على إنكارهم"الشتيمة والابتزاز"في مقالة صحافي شانغهاي، وأيدوه على"حرية النقد والرد على النقد". ونشرت"صحيفة الشعب"المقالة بعد يومين، وسبقها تمهيد افتتاحي قرأه رئيس الوزراء وأقره. فكان نشر المقالة إحدى السحب الغريبة. وأقر"فريق الثورة الثقافية"، وعلى رأسه العمدة، بأن مساعد العمدة وصاحب الأوبرا المسرحية، ارتكب"أخطاء سياسية". وذكّر بالميثاق الذي رضي به رئيس الوزراء، وقضى بتصحيح الأخطاء من طريق المناقشة الفكرية والأكاديمية وليس بواسطة الإجراءات السياسية والإدارية. والتقى العمدة، وفريقه، ماو في شباط نفسه. فأبلغوه"موضوعات شباط". فلم ينكرها. وسأل عما اذا كان الكاتب المساعد"مناوئاً للحزب"أو"ضده"، ولم يقيد استمراره على عمله ووظيفته إلا بشرط واحد هو ألا تكون بينه بين الكاتب نائب العمدة وبين وزير الدفاع السابق، بينغ دوهويه،"علاقة وظيفية"او تنسيقية. ولم يكد العمدة يخرج من لقاء"الرئيس"حتى بلغه ان ماو نعى عليه تدبيره العاصمة على نحو"مملكة مستقلة". وقبل من غير ملاحظة ولا تحفظ ما ذهبت إليه السيدة ماو، جيانغ جينغ، ولجنتها الثقافية العسكرية، من ان نهجاً سياسياً أسود، ومناهضاً للحزب والاشتراكيه، وعلى نقيض فكر ماوتسي تونغ يتسلط على الحزب منذ 1949. وأرفق قوله بتوعد"فريق الثورة الثقافية"، ومصلحة الدعاوة، بالحل والإدانة. وما كان يقال بين جدران الحجرات النائية ? وكان ماو يقيم بولاية وهان بعيداً من العاصمة ? ندب الرئيس وزير الاستخبارات الغامض والضالع في عدد من الشلل المتنافرة، كانغ شينغ، الى الجهر به في اجتماع أمانة الحزب العامة في رئاسة دينغ، في اوائل نيسان ابريل 1966. وتعاقب أقرب معاوني ماو، وأخلص خلصائه المطيعين والقادة القادمون"للثورة الثقافية"الجارية من غير ان يدري احد بعد، وأولهم كانغ شينغ الاستخبارات وشين بوتا الحرس الشخصي، تعاقبوا على الطعن في عمدة بيجينغ وپ"جرائمه"منذ 1930 ودخوله الحزب سراً. وفي الأسبوع الأخير من الشهر، أخبر ماو ليو تشاوتشي، رئيس جمهورية الصين الشعبية، ان الأمانة الدائمة للجنة المركزية توشك ان تجتمع في ايار مايو، وعليه هو ان يتولى طرد العمدة وأنصاره من أعضاء هيئات الحزب العليا، في غياب ماوتسي تونغ. وهذا النهج في التدمير الشخصي والسياسي من امثلة لا تحصى على مزيج"الآداب"السلطانية الصينية والتقاليد التنظيمية والحزبية الشيوعية الذي توسل به ماوتسي تونغ، بعد ستالين، الى قيادة السياسة الصينية. ويصدر هذا النهج عن يقين"ماوي"بأن الحزب نفسه، من قاعدته الى قممه المجربة طوال نحو اربعين عاماً في أقسى الظروف، مريض بپ"الأفكار"والميول"البورجوازية"وپ"الإقطاعية"الدنيئة. فلا حصانة، بحسب ماو، من ميل الفلاحين المزارعين"المتوسطين"وپ"المتوسطين ? الأثرياء"وهو المصطلح المحلي الصيني نظير"الكولاك"في المصطلح الروسي الستاليني واللينيني قبله الى امتلاك الأرض، واستغلال الفلاحين الفقراء، والاستيلاء على الدولة، واستتباع الحزب الشيوعي وإلحاقه بالإيديولوجية الشيطانية والسوداء. وهذا عصارة من انتهى إليه ماو من تأمله في مصير الاتحاد السوفياتي الى ما صار إليه من طلب منافسة الغرب الرأسمالي، والتعايش السلمي المسلح والنووي، واقتسام النفوذ الدولي شراكة معه وازدراء الصين الفقيرة والمتخلفة. وخلص من هذا وغيره الى ان الاستيلاء على السلطة، الشيوعية قبل غيرها، عمل لا نهاية ولا ختام له، ينبغي تجديده وبعثه من طريق"الجماهير"، كناية عن غير الحزبيين. وبحسب القائد الصيني ان المزارعين الفلاحين هم القوة الثورية الأولى، وكانوا يعدون نحو500 مليون من 700 مليون صيني يبلغ عدد الصينيين اليوم نحو 1.3 بليون. ولكن"حركة التربية الاشتراكية في الأرياف"التي حاول ماو نفخ الحياة فيها، في 1962 - 1965، لم تثمر، ولم تحرك ساكناً. فقصد المدن، وطلابها وفتيانها وبطاليها العاطلين عن العمل وعمالها الآتين من الأرياف وصغار الموظفين، وكل من قد يبيت ثأراً على"المستبدين"، صغارهم وكبارهم، الآمنين الآمرين والناهين. ولكن الرجل النافخ في"غريزة التمرد"العامية والشعبية، ورافع لواء"الحق في الخروج على السلطة"، وداعي الناس والمستضعفين في لغة أليفة الى إصلاح الاعوجاج بإيديهم، كان عدو الفوضى التلقائية والملازمة للحركات العامية. فهو رجل سلطة وقيادة. وعلى هذا، أعد العدة لتأطير ثورة الجماهير الموعودة على الجهاز الحزبي. وتوسل الى استعادة قيادته الفعلية على الحزب والدولة الموبوءين والمريضين، بمعقل القوة المنظمة، أي بالجيش. فعهد الى دائرة الثقافة في القوات المسلحة، وعلى رأسها زوجته وعلى رأس الجيش واللجنة العسكرية في الحزب بعض أعوانه وبعض ألد خصومه منذ"اختباراته"التاريخية المدمرة، عهد إليها، وإلى نحو 200 ألف من"الكوادر"، بتأطير الفوضى المتوقعة والناجمة عن انهيار الحزب والإدارة والإنتاج وشطر راجح من النواظم الاجتماعية. وهذا بعض معنى شعار"نقل الصراع الى الأبنية الفوقية"، أو إعماله فيها. وفتن الشعار هذا نخبة من المثقفين الغربيين، ليس جان - بول سارتر وميشال فوكو وقبلهما لوي ألتوسير وكلهم فرنسيون أقلهم شأناً وافتتاناً، ولو لبعض الوقت. وحرك مكامن وربما لواعج الرغبة في"إنسان جديد"، لا قيد عليه من ماض أو من معايير أخلاق واجتماع وعلم. الحق في الانتفاض واقتضى الاستيلاء على قيادة الجيش، في آذار مارس 1966، اعتقال رئيس الأركان لويو رويتشينغ وكف يد أعلى مسؤول حزبي في اللجنة العسكرية المركزية مي لونغ في تهمة غامضة. وثبت الأول التهمة، فحاول الانتحار، ولكنه نجا من الموت، وقدم لقمة سائغة الى الجماهير الثائرة، في خريف العام نفسه، فحاسبته حساباً عسيراً قوامه الركل بالأقدام، وشد الشعر، والضرب بالعصي، والشتم، والصراخ، وغيرها من تقنيات لم تلبث ان عمت صين المدن ومرافقها. واستولى انصار ماو العسكريون على حامية بيجينغ من طريق الاستمالة والمراوغة. وآذن ذلك بإعلان ابتداء الثورة في مقالين عاد نشرهما الى"صحيفة جيش التحرير":"لنرفع عالياً اللواء الأحمر لفكر ماوتسي تونغ، ولننخرط في الثورة الثقافية الاشتراكية الكبيرة"افتتاحية 18 نيسان، وپ"لا ننسينّ ابداً صراع الطبقات"افتتاحية 4 ايار/ مايو. ولحقت قيادات الأمن والاستخبارات بالقيادات العسكرية، وأعلنت ولاءها لپ"الربان الأعظم"او"الشمس الحمراء"، على ما لن تتأخر تسمية ماو. وعلى رغم توسع التطهير، وسقوط بينغ تشين عمدة بيجينغ في حزيران يونيو ثم رئيس دائرة الدعاوة لو دينغيي بعد ايام قليلة، باغت الأمر القيادات الحزبية. فاعتقد القياديون، على الدوام، ان التطهير لن يتعدى الحد الذي بلغه، ومن المحال ان يتعداه. فتعديه معناه انهيار الحزب والدولة. وهذا ما لن يقدم عليه امرؤ عاقل. وعليه، كان ماو يتمتع بسبق تخمين وتربص على خصومه الذين ينوي الإيقاع بهم. فلم يعمدوا الى تدبير أمرهم، وتنسيقه فيما بينهم. وحسب واحدهم، كل على حدة، انه بمأمن. وهذا دأب القوة التي لا تقيدها السياسة"التقليدية"او الواقعية، ونشأت عنها السياسات الكليانية أو الشمولية المعاصرة، في الغرب والشرق: فهذه القوة تباغت البشر العاديين الذين لا يحسبون ان الجواز السياسي والإنساني غير مقيد بالمعقول، ورد السياسات الكليانية هو أن لا"قرار"يعصاها مهما كان"كبيراً"وبدا غير محسوب العواقب. فلما ضمن"شمس"الصين تفرق خصومه، دعا اللجنة المركزية الثامنة الى الانعقاد في دورة استثنائية هي الأولى منذ أعوام، وعهد إليها بالخروج على سنن العمل الحزبي ومعاييره، وتولية"الحرس الأحمر"، من الفتيان والشبان، الانقلاب على الحزب نفسه، وكنس الحزبيين ومراتبهم وهيئاتهم، والوشاية والتنديد العلنيين بهم. وخرجت اللجنة المركزية، في 8 آب اغسطس بميثاق الثورة الثقافية، في 16 بنداً او مادة. وكسرت بنود الميثاق السدود، وأغرقت أمواج الفتيان والشبان الولاياتالصينية في فيضان مياهها الثائرة. فضعفت قبضة بيجينغ على الولايات التي استقلت بنفسها، وتنازعتها صراعات أهلية محلية، وتعاقبت عليها شيع وجماعات متقاتلة ومتناحرة. وانقسمت"الجماهير"بشانغهاي، على سبيل المثال، شطرين: واحداً سمى نفسه"مقر أركان المتمردين الثوار والعمال"، ويأتمر بأمر ماو ورهطه، وآخر سمى نفسه"مقر اركان وحدات الدفاع الأحمر العمالي دفاعاً عن فكر ماوتسي تونغ"، ونواة قيادته هي لجنة الحزب في بلدية شانغهاي. واشتبكت الرابطتان، والثانية تعد 780 ألف ناشط، في معارك دامية، مسرحها الشوارع والأحياء والساحات ومرافق العمل والإدارة، وسلاحها من أسلاب مخازن قوات الأمن والجيش. وخلفت الاشتباكات مئات القتلى والضحايا. وتردد ماو وأصحابه في تولية الجيش، وقادة الولايات، حسم الاشتباكات التي انتشرت تدريجاً في معظم مدن الولايات الكبيرة، في الجنوب والشرق والوسط. فتولي الجيش الحسم، ومساندة"اليسار"الحرسي الأحمر، يترتب عليه تعاظم سلطة القيادات العسكرية المحلية، ومعظمها لا يزال يوالي الجهاز الحزبي"المحافظ". فلا يأمن المرشد الشيوعي انهيار خطته، وسحق أنصاره، وخسارته من جديد مقاليد السلطة. وبعد تنديد قيادة ماو بتسمية الحرس الأحمر هيئة إدارة شنغهاي الجديدة"عامية شنغهاي""كومونتها"، بحسب الاسم التاريخي الفرنسي والباريسي في 1871، أمرت، في اوائل 1967، بتبني صيغة"اللجنة الثورية"- وهذا لم يفت معمر القذافي المتربص في ثكن طرابلس وسرت - وثالوثها"المتحد": الجيش وپ"الكوادر"التائبين وپ"المتمردين الثوريين"الحرسيين. وضيعت الفوضى الحدود بين التيارات، واختلط حابل المنازعات المحلية بنابل الخطة المركزية الماوية. فبدا تحكيم الجيش حاسماً. ولم يلبث الضباط ان استولوا في"اللجان"المثلثة العتيدة على المراتب والأدوار البارزة. فترأسوا اللجان في هيونغ جيونغ في الشمال الشرقي من الصين، وشاندونغ الوسط الشرقي، وغواندونغ الجنوب الشرقي، قرب هونغ كونغ، أو هيمنوا عليها فعلاً. وفي احيان كثيرة، كانت تتصدى للجنة المثلثة"لجنة عمل"ثورية تتهمها باصطناع الاستيلاء على السلطة، تمويهاً واستباقاً لاستيلاء المتمردين"الحقيقيين". وتطعن في مشروعيتها، وتستعدي"الجماهير"عليها. وخشيت القيادة الماوية تناسل حركات التمرد، وسعي بعض الفرق الحرسية في التسلل الى القوات المسلحة، واستدخالها، وجرها الى التمرد والانتفاض على"الكوادر"المتمكنين. فأمرت باستثناء الجيش من حركات الاستيلاء على السلطة، والنقد والمحاسبة، وسلطت الجيش على العصاة المتمردين. فأعمل فيهم التقتيل والاعتقال والنفي الى الأرياف. وكان هذا ابتداء حركة تهجير عريضة الى الريف، شملت عشرات الملايين من المتعلمين والإداريين والمهن الثقافية والتقنية وأسرهم، الى الفتيان والشبان من تلاميذ وطلاب وعمال فنيين عصوا على الضبط الماوي. وفي غضون اسابيع قليلة، أمر هؤلاء بترك بيوتهم ومنازلهم وأعمالهم وأهاليهم، والتوجه الى قرى وبلدات لا عهد لهم بها، ولا عهد لأهلها بهم. والذريعة الماوية الى حركة التهجير العريضة جمع العمل الفكري الى العمل اليدوي والمهني "الممارسة"، في المصطلح المتواتر، وإنزال"الكوادر"والمثقفين من عليائهم، وامتحانهم من طريق حكهم بپ"الجماهير"وتسليطها او تسليط غوغائها عليهم. وهذه"الفكرة"هي لوثة من لوثات"الجدل"الماوي، وإرادته"وحدة المتناقضات"، وثأر من ثارات العصامي على التدريس الممتنع. وأتبع التهجير الجماعي بپ"إصلاح"التعليم والمدرسة والتربية عموماً. فأمر ماو بإبطال التدريس، ومحاسبة التلاميذ المدرسين، وإلغاء الامتحانات والعلامات. وأوكل الى العمال والفلاحين جمع الفتيان والأولاد حولهم حلقات، وپ"الدردشة"عليهم. ودعا الأولاد الى محاسبة آبائهم وأمهاتهم، مسترشدين بفكر"شمس الشرق"الحمراء، وإلى الوشاية بهم. فشاعت اعمال التشهير، وتطورت الى نهب المنازل والبيوت، ومصادرة الأثاث والتحف والمخطوطات والذهب والجواهر. وحرقت الكتب"التراثية". وقضى عشرات الآلاف في دوامة هذه المساخر، انتحاراً أو يأساً واكتئاباً، الى من قضوا جوعاً وبرداً وعطشاً، أو فقدوا ذاكرتهم وأصيبوا بالجنون. ودارى وجه من التهجير الخراب الذي اصاب توزيع المنتجات الغذائية، واضطراب شبكات التموين وتقطعها. فأثقل على المزارعين الفلاحين، وعطّل الإنتاج في المدن. فتردى الإنتاج الصناعي 17 في المئة، في 1967، ومثلها في السنة التالية، بحسب شو إن لاي رئيس الوزراء. وتضافر هذا وغيره مثله على تدمير العلاقات الاجتماعية المستقرة، وهيئاتها ومؤسساتها المحافظة حكماً. وجعلت محلها"افكار"خاوية ومرتجلة ولدت سياسة"الخمير الحمر"الكمبوديين، وإبادتهم ثلث الشعب الكمبودي في 1976 ? 1978. وهذه من ولائد الشيوعية الصينية المباشرة، شأن الوليد الكوري قبله. وولدت، من طريق مواربة ربما،"أحلام"معمر القذافي، وبعض"أجهزة"روح الله خميني العسكرية والتعليمية وپ"الثقافية"، ومناهج حركات"تحرر"في القارات الثلاث... وبلغت تكلفة"الثورة الثقافية"التي يمكن إحصاؤها، تكلفة الحرب الأهلية الصينية، على قول رئيس الوزراء العتيد إياه، أي نحو عشرة ملايين نفس، الى ما لا يحصى من الآلام والعذابات والحيوات المقصوفة. ولم تخرج الصين من الإعصار المدمر هذا إلا حين احتدم صراعها مع الاتحاد السوفياتي، وتهددها قادته بالسلاح الذري. فأوعز ماوتسي تونغ الى ديبلوماسيته، في اواخر 1968، باستطلاع السياسة الأميركية وسبرها في ذروة ورطتها الفيتنامية وسعي رئيسها الجديد، نيكسون، في الخروج من الورطة. ومهد هذا للاعتراف الأميركي بالصين، في 1972، وپ"فتنمة"الحرب المتأخرة والانسحاب. وفي الأثناء قتل لين بياو، الخليفة المزمع وأقرب الرفاق الى"الرئيس المحبوب من سبعمئة مليون صيني"، وهو يحاول الهرب الى الاتحاد السوفياتي. وفي 1978، بعد أقل من ثلاثة أعوام على وفاة ماو، أدخل دينغ،"الرجل الضئيل"، الصين في"اقتصاد السوق الاشتراكية"وأنشأ المناطق الصناعية الحرة حيث استعرت معارك الحرس الأحمر. ويفاوض، اليوم، هو جنتاو الرئيس الأميركي على الرسوم التجارية على صادرات هذه المناطق الى الولاياتالمتحدة، بعد محطة في سياتل، ولاية واشنطن على المحيط الهادئ وپ"الجامع"بين ضفافه على قول هو الذي كان في الخامسة عشرة، في ربيع العام"المتألق"ذاك. * كاتب لبناني