الرئيس السوري أحمد الشرع يغادر جدة    أمير الجوف يستقبل قائد حرس الحدود    «منصة مدارس».. عربات قطار التعليم السريع    ترمب يتوعد لندن و"الأوروبي" بتوسيع الرسوم الجمركية    إمارة الشرقية تعزز التعاملات الإلكترونية    وزير الشؤون الإسلامية يفتتح معرض الأمن السيبراني    600 مليون ريال لتطوير وتنمية المنطقة الشرقية    ارتفاع حجم الإنفاق عن طريق نقاط البيع بنهاية عام 2024م    المملكة والهند تعززان الاستثمارات الصناعية    لبنان تخلع العمامة !    التطهير والتهجير    زيلينسكي يناشد الدعم الغربي لإنهاء الحرب    الدبلوماسية السعودية «طوق نجاة» لمؤازرة اقتصاد سورية وإعمارها    فلسطين تحذر من خطورة مخططات الاحتلال على المنطقة    الرئيس الأوكراني يطلب الدعم من الغرب    انفجار يقتل قيادياً بارزاً موالياً لروسيا في دونيتسك    موعد مباراة الهلال وبرسبوليس الإيراني    الأهلي يتصدر.. والنصر «يتمخطر»    أندية المدينة المنورة: أنا لست بخير !    بيولي يقارن دوري روشن بالدوري الإيطالي    اتهامات الدفع الرباعي في دوري روشن    السائقة السعودية أرجوان عمار: مشاركتي في رالي حائل زادت قدراتي التنافسية    السعودية.. رؤية ملهمة لدعم رياضة المرأة    توقيع ست مذكرات لوقف الشفاء بالمدينة    إجازة يوم الخميس للطلاب    خدمات تطوعية صحية لأكثر من 250 ألف مستفيد    البيتزا تقتل سيدة حامل    تتعاطف مع قاتل ابنتها وتدعم براءته    أمانة جدة تصدر وتجدد 6,043 شهادة صحية خلال شهر يناير الماضي    بصرك اليوم حديد    الطلاب يرتدون تاريخهم وهويتهم كل صباح    العداوة المُستترة    سمعًا وطاعة والتزامًا بالقرار الحكيم    عدد من معلمي التربية الفنية في بيش يزورون متحف الجندلي التراثي    إرث ثقافي    اكتمال مغادرة الدفعة الثالثة لضيوف برنامج الملك للعمرة والزيارة إلى بلدانهم    «التخصصي» يُصنَّف 15 عالمياً    موانع الحمل ثنائية الهرمون    القنفذة: «مؤسسة حسن الفقيه» تبدأ مسيرتها لإثراء الساحة الثقافية    الشرع: لقاء الأمير محمد بن سلمان يؤسس لعلاقة إستراتيجية بين السعودية وسورية    العمر لا يمنع رونالدو من التسجيل    محمد عبده ل«عكاظ»: الاعتزال لا يزعجني وأغني بتحضير دقيق مع بروفة    تعويض الزوجة في حالات الطلاق غير الموثق    رئيس الوزراء الصومالي يصل جدة    مفوض الإفتاء في جازان: اللحمة الوطنية واجبٌ ديني ومسؤولية مجتمعية    السديري يستقبل رئيس واعضاء مجلس إدارة جمعية كافلين للأيتام بتيماء    حصر المباني الآيلة للسقوط في الفيصلية والربوة.. ودعوة ملاكها للمراجعة    تنامي ملحوظ في العلاقات الاقتصادية بين السعودية وألمانيا    هيئة الهلال الاحمر السعودي بنجران تتلقى 1202 بلاغاً خلال شهر يناير 2025    نائب أمير الشرقية يستقبل قائد القوة الخاصة للأمن البيئي بالمنطقة    استئصال ورم سرطاني ضخم يزن 8 كغ من بطن مريضة بالقصيم    تفعّيل برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    5 مخاطر صحية تهدد العاملين بنظام المناوبات    عبدالله آل عصمان مُديراً لتعليم سراة عبيدة    العلاقات بين الذل والكرامة    إن اردت السلام فتجنب هؤلاء    «عاصفة الفئران» تجتاح 11 مدينة حول العالم    القيادة تعزي أمير الكويت في وفاة الشيخ دعيج إبراهيم الصباح    









ماوتسي تونغ في ذكرى استيلائه على الحكم ... سلطاناً طاغية وثائراً متمرداً
نشر في الحياة يوم 12 - 10 - 1999

ربما يحسن بالمرء العاقل ألا يعرف شيئاً، أو الشيء الكثير، عن موضوع هواه، وموقع هذا الهوى، إذا شاء أن يهوى. وليس الاستحسان هذا رواية عن "طوق الحمامة" لابن حزم، ولا استهلال مقالة في ما استعاد له الفقيه الظاهري الكبير هذا الطوق الرقيق، بل هو صدى من وحي احتفال حكام الصين الشيوعيين بانقضاء خمسين عاماً على استيلائهم على حكم "مملكة وسط الأرض". وهو إيحاء لا يمت إلى الصين نفسها، والى تاريخها، إلا من طريق صاحب المقالة وسيرته وترجمته. فالصين التي يريد لها حكامها أن تحتفل بتنصيبهم "أباطرة" عليها، على قول بعض الصحف "التقدمية" العربية، إنما هي، اليوم، رد جواب حاد وساخر على حكايات وقصص روتها الصين على مسامع الناس وعلى أعينهم وأنظارهم وأفهامهم، وأقبل عليها بعض الناس، فصارت بعضاً من "محاورتهم أنفسهم" ومكالمتهم إياها.
والصين التي تتردد أصداؤها في جنبات احتفال اليوم و"عيده" هي الصين الماوية، صين الزعيم الشيوعي الذي دخلت قواته بكين في الأيام الأولى من تشرين الأول اكتوبر 1949، ماوتسي تونغ أو ماو دزي دونغ، على تهجئة مختلفة لإسمه. فينسب شعب، والصين شعوب وأقوام كثيرة، ينسب شعب برمته، وهو يعد سدس البشرية، إلى شخص واحد. ولو كان "الشعب" إثنين، لكانت النسبة تعسفاً وسَرَفاً. وهو زعم أنه ليس سوى "حاج يسوح تحت مظلة ممزقة في وقت عاصف" على قوله على مسمع جورج بومبيدو، الرئيس الفرنسي الأسبق والراحل في 1974، وعجل هذا في رواية تعريف الزعيم الصيني نفسه على الإعلام كله.
ولعل جمع ماوتسي تونغ، بإسمه أولاً وبإسم قيادة الحزب الشيوعي وبإسم الحزب الشيوعي الصيني كله من بعد، بين تجسيده الصين كلها، ناساً وتاريخاً ومعاني أو حضارة، وبين اقتصاره على امرءٍ قليل وضعيف وفانٍ، شأن كل واحدٍ من الناس، كان جمعه مدخلاً مراوغاً ومخاتلاً إلى هوى ناسٍ كثيرين. وقد لا يكون اتفاقاً ومصادفة دخول الصين، منسوبة إلى ماوتسي تونغ، روعَ شبان، ولد معظمهم في أواخر الحرب الثانية أو غداتها، ووجدانَهم و"محاورَتهم أنفسهم"، في ابتداء "الثورة الثقافية والبروليتارية الكبرى" 1966. فما سماه زعيم الحزب الشيوعي الحاكم، وكان على شفير التنحية من السلطة والتنصيب صنماً جامداً تطاطأ له الرؤوس من غير سمع ولا طاعة، ما سماه "ثورة"، وهو المفترض صاحب الأمر وقائد "الأركان العامة"، بدا مزيجاً باهراً من وطأة السلطان وخفة قاطع الطريق.
وهو بدا على هذا النحو لمن يصدقون جواز مثل هذا المزيج، ويتوقعون حصوله، وينتظرونه على شاكلة انتظار غيرهم، وربما على شاكلة انتظارهم هم من غير أن يدروا، مخلِّصهم، وخروجَه الوشيك. فماو كان صورة السلطان القوي والثابت، وكان يكني عن مناعة الصين الماثلة في سورها "العظيم". والملصق الأكثر شيوعاً له، في أواخر العقد السابع وأوائل الثامن، كان صورته الشمسية الجانبية وهو رافع ذراعاً رمادية عريضة، ويغشى نحو ثلث الصورة وحده، ويحيّي من علو جماهير غفيرة لا يشك الرائي في أنها طوع ذراعه وابتسامته الصريحة.
ولم تلق الرواية الرسمية، التاريخية على زعم رواتها وناشريها، عسراً في إقناع أهل السذاجة - وكاتب اليوم منهم - أن نزيل "المدينة الحرام" ببكين، وهي "غلاطة سراي" الصين، هزم وحده "العدو الرئيسي"، على ما كان يكتب ويذيع، المركب من "طبقة الكومبرادور" العملاء والوكلاء والوسطاء المحليين، واليابان المتعسكرة، والولايات المتحدة الأميركية، رأس الأفعى الإمبريالية ووارثة قوى العدوان الغربي الطويل على الصين. فهو، أي ماو، جامع شمل الصين المجزأة والممزقة والمترامية الأطراف" وهو محررها من الغاصب الياباني القوي ومقتطع منشوريا، ومن مواليه المحليين الذين سبق لهم أن سحقوا بشنغهاي وكانتون "أسلاف" ماو ورفاقه" وهو، فوق هذا، خصيم القوة الأميركية على استقلال الصين، وعلى نظامها الاجتماعي و"اشتراكيتها" الصينية الخالصة.
والى هذا، وهو كثير ولا يحاط به، كان ماو، في ابتداء "الثورة الثقافية"، غريم الاتحاد السوفياتي. وأشاع بعض مداحي طاغية الصين، من الأميركيين الليبراليين والمعتدلين، وكإدغار سنو صاحب "النجم الأحمر فوق الصين" أبرزهم، أن "الثورة" المزعومة، إنما هي رد جواب على تقاعس الاتحاد السوفياتي على جبه الحرب الأميركية على فيتنام، وعلى تخاذله عن التلويح بسلاحه النووي على ما اقترحت مجلة جان بول سارتر الشهرية، "الأزمنة الحديثة"، في فاتحة أحد أعدادها. ولم تلبث حلقات السلسلة أن أخذ بعضها بتلابيب بعض، وتماسكت على ربط الثورة الثقافية بتضامن الصين مع المقاومة الفيتنامية، وربط الأمرين بنهج بناء الاشتراكية في الداخل - من غير تسلط بيروقراطية حزبية، ولا تحكم مثال تصنيعي قمعي، تتسلل الرأسمالية من افتراضاته العملية والنظرية جميعاً. وكان هذا "السور"، الكثير الأطواق والعظيم السلطان، مسافراً فقيراً، مخرَّق المظلة. فهو ليس إلا صنيعة المساكين والجياع و"فقراء الفلاحين" والصعاليك. وذهبت الأسطورة الشيوعية، وهي من صنع القائد نفسه، إلى أن تجديد ماوتسي تونغ الشاب، في 1928 وكان في الخامسة والثلاثين، إنشاء الحزب الشيوعي، غداة سحق المعقل العمالي بشنغهاي، وإرساءه على أركان جديدة، فلاحية وريفية وصينية غير كوسموبوليتية ولا أوروبية، إنما مصدره ملابسة المدرِّس عامة الناس وأهل البلد، وإصاخته السمعه إلى "بؤسائهم" و"حكايات مرارتهم" على ما سمى الصينيون الأخبار عن الماضي "الإقطاعي"، ومخالطته "سفاءهم"، وفي هؤلاء البغايا وقطاع الطرق.
أي ان السلطان "العظيم" كان أكبر من السلطان وأعرض. فلم يقدر السلطان على الإحاطة به، ولا على استيفاء تعريفه وحدِّه. فبقيت منه بقية راجحة وكبيرة هي المرء ماو، والرجل، والإنسان، أو الشخص، على ما نقول محرِّفين الكلمة عن معناها ووضعها. ووسع القائد والزعيم أن يضمِّن صورته، على خلاف تلميذه الكوري، كيم إيل سونغ، وتلميذه الآخر الألباني، أنور خوجة، ظلالاً تنم بضعف الإنسية وخروقها ورقعها فقرها وضعفها ونسيانها، على حسب الصوفية. وما يتهدده امتلاءُ السلطان والقوة بسد المنافذ والاختناق، وبالانقطاع من الكلام والمحاورة، يرد عليه ضعفُ الإنسية القدرةَ على الكلام والرغبة فيه.
فاستوى ماوتسي تونغ، أو صورته الظاهرة - والأمران واحد في ميزان السياسي المحترف - في أعين أهل السذاجة وأهل الحذاقة جميعاً، ولو من وجهين مختلفين، نصباً من أنصبة السلطان، و"إنساناً" أو إنسياً قريباً، لم ينفه السلطان من الإنسية السائرة والمقسومة في سواد الناس وجمهورهم. فمن عقد صورة نفسه على مثال سياسي، وذرائعي عملي، وطلب مثالات معللة يُجري عليها أعماله، وجد بغيته، في قائد "المسيرة الطويلة" من رويجين، في تشرين الأول اكتوبر 1934، القريبة من الساحل الشرقي بين شنغهاي وكانتون، إلى يِنان، بقلب الصين الجبلي، البعيدة نحو اثني عشر ألف كلم، والتي بلغها الجيش الشعبي الضامر في الشهر نفسه من العام 1935. وقائد "المسيرة الطويلة"، والمتسلل من المدينة إلى الأرياف - قبل العودة إلى المدن غداة ترك الخصم الصيني المنهك الحرب، والتجائه إلى الجزيرة القريبة، تايوان، بعد أن تخلت الولايات المتحدة الأميركية عنه واستخفت به - هو نفسه مجدد توحيد الصين على مثال امبراطوري وإداري ألفته الصين منذ عهود قديمة، وتجدَّد في أثناء تاريخها الطويل. وهو كان وراء غزو كيم إيل سونغ، الشيوعي الكوري الشمالي، كوريا الجنوبية، والعدوان عليها، وتقسيمها. وهو ملهم الإدارة الاقتصادية على مثال الحملات العسكرية "السخية" بالجنود، والمطمئنة إلى غفلة الحسيب والرقيب. ولما حسب أن "المشي على قدمين"، الزراعة والصناعة، مشياً وئيداً، لن يؤدي بالصين إلى الاستواء قوة عظمى أي نووية، وروسيا ستالين محجمة عن مد يد العون "الأخوي" اليها، قَسَر الأرياف على "القفزة الكبيرة" "إلى أمام"، بحسب الترجمة الحذرة والمتحفظة، وخلَّف فيها مجاعة ذريعة لم يحصَ ضحاياها، وهم ملايين يقيناً، إحصاءً دقيقاً بعد.وكانت "الثورة الثقافية البروليتارية الكبيرة"، أو "العظمى" على ما كان السيد معمر القذافي ترجم وعرَّب، حادثة من الحوادث الحزبية التي برع ماو في استنباطها، والمناورة بها، وجر الخصوم الحزبيين "الرفاق" إليها. وهي، شأن غيرها ونظيرها من الحوادث، مَسْرحةٌ عريضة وضخمة للحرب الأهلية، واخراج ظرفي وموضعي لعواملها الكامنة والمتفرقة. فإلى العلاقة المُشكِلة والمتنازعة بين الأرياف والمدن، وهي بمنزلة الركن من السياسة الماوية وفكرها، توسل ماو بالعلاقات المشكلة والمتنازعة، الصينية، الأخرى: العلاقة بين الأولاد الشباب الجدد وبين الأهل المسنين القدماء، والعلاقة بين المتعلمين الكتاب الإداريين وبين العامة المحكومين، والعلاقة بين السلطة المركزية وبين الولايات والمناطق و"الأراضي" والأقوام...
وكان ماو، المنظر "الماركسي" وهو حمله ستيوارت شرام وهيلين كارير - دونكوس على نازع الماركسية الأولى إلى "الإنحطاط" والاختزال، جعل من المتناقضات "طينة" الكائنات، وأعم مبانيها. وصاغ هذا المذهب الصيني التقليدي بعبارة قارن لويس ألتوسير، الفرنسي الألزاسي، "جمالها" و"بلورها" ب"الصباح" أو ب"تنفس الفجر"، على ما كان الرجل قال له أعرب ولم يعجم. ولكن الجدل الماوي، والمأساوي الأثمان الباهظة، كان ينتهي دوماً إلى خاتمة تطفىء الجدل، أو تزعم القدرة على إطفائه، وتنسب هذه القدرة إلى ماو نفسه. وهذا على شاكلة الجندي الرصاصي القدمين، والشمعي البدن والرأس، إذا ألقي به أرضاً وقف، لا محالة، على قدميه. وعلى هذا النحو كانت خاتمة "حملة المئة الزهرة"، في 1956 - 1957، والدعوة إلى "تفتح" أكمام الأفكار والآراء والاجتهادات" وكانت خاتمة "القفزة الكبيرة"" ثم كان سقوطُ الطائرة التي أقلت لين بياو - "أقرب رفاق" الزعيم اليه، وصاحب "الكتاب الأحمر"، موجز توقيعات المفكر "العبقري"، ومنظم "الثورة الثقافية" - وهو يهرب إلى روسيا "التحريفية"، في 1972، ختامَ الثورة العتيدة. فصاحب السلطان هو صاحب الكلمة "الأخيرة"، أو الفصل. ولعل شطراً من عبقرية ماوتسي تونغ المسرحية والمشبِّهة،. مرده إلى إلباس صاحب السلطان، وقبضة السلطان المدمرة، لباس الثائر المتمرد، وزي "الخارج على القانون" قاطع الطريق، ومرقَّعة المسافر الفقير والخارج إلى محجة بعيدة ومتعذرة. وجمعه الوجهين والدورين في صورة واحدة، مركبة ومتتامة على ما توهم أناس كثر، كان ذريعته القوية، وذريعة نظام الاستبداد الذي أرساه، إلى سوس الصين بالسياسة المراوغة والباهظة التي ساسها بها.
فصَرَف وجه الثائر المتمرد، وهو وجه قاطع الطريق والمسافر الفقير والشاعر، الحسابَ أو الحسبة والمراقبة عن الحاكم المتسلّط والساعي في سلطان ساحق ومدمر على المواطنين والجماعات والأقوام والطبقات الاجتماعية والدول الإقليمية، جميعاً. وأوهم الوجه الأول، أو أراد الإيهام، بأن سلطان ماو العظيم والساحق، وسلطان الحزب الشيوعي من ورائه، ليس إلا التتمة الاضطرارية والثانوية، لثورة مستمرة ينفخ فيها الحاكم المطلق اليدين الحياة، ويرعى دوامها، ويحول بينها وبين التحجر على مزاولة الحكم والإدارة والدولة، وبينها ويحجز بين الاقتصار على هذه.
وأوهم هذا بحقيقة محايثة السلطان و"الدولة" حركة المجتمع التلقائية، واستواء الأمرين واحداً. فعلى هذا، ليست "الدولة" الماوية، وهي دولة قيادة الحزب الشيوعي المنفردة بالسلطة والأمر والتدبير، إلا "الشعب" الواحد والمتصل كله، من غير فروق ولا فوارق ولا شقاق ولا أبعاض، حاكماً نفسه بنفسه، ومستوفياً حضوره ومثوله من غير بقية ولا واسطة ولعل من دواعي القلق أن الفيلسوف والكاتب الفرنسي الكبير، سارتر، وهو كان ذهب، في 1944، وفي ختام كتابه الفلسفي الكبير، إلى امتناع "هوى الإنسان" المحمومِ الجمعَ بين حال ما هو في نفسه، أي حالِ الشيء الأصم، وبين حال ما هو لنفسه أو إليها، أو حال الوجدان الفاقد الجوهرية - سارتر هذا كان "ماوياً" في أخريات عمره ومصدقاً جواز استواء عمل إنسي على مثال أوجب امتناعه قبل ربع قرن.
ومثل هذه المحايثة، إذا صدَّق ناس حقيقتها وكنتُ من المصدقين، تعفي الحاكم، و"الدولة"، من واجب العلانية، ومن واجب الانفصال من المجتمع والشعب والقوم والأحزاب، وعنها. فإذا أعفي الحاكم و"الدولة" من الواجبين حق لهما التجسد والحلول في المجتمع والشعب والقوم والأحزاب، بل في كل واحد من الآحاد والأفراد، وصح زعمهما الاقتصار على العبارة عن المجتمع والشعب والأفراد، من غير زيادة ولا نقصان. فالحاكم هو المعارض، والدولة هي الثورة، والقائد هو المناضل، والشعب هو السلطان: فهذا "ليل المطلق من الحدود والفروق، كل فئرانه غبراء، وكل بقراته سود".
هل نحن في الصين؟ وفي العقد السابع؟ أم أننا "هنا"؟ وفي سنة 1999 الميمونة؟
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.