من الآن فصاعداً ستضع كوادر الدولة الصينية أيديها على قلوبها وستسري في أجسادها رعشة الخوف والقلق كلما لاح لها ان زو رونغجي مقبل على زيارتها وتفقدها في مواقع عملها في مؤسسات الدولة واداراتها ومصانعها. فرئيس الوزراء الجديد 69 عاماً الذي تم تنصيبه هذا الشهر خلفاً لزميله لي بينغ تسبقه اينما ذهب شهرته كشخصية صارمة ومعادية لكل مظاهر التسيب والانحراف والفساد ناهيك عن المحاباة والنفاق. وبالتالي فهو لا يتردد في كشفها وفضح أصحابها، بل في ضرهم متى ما كان الأمر في نطاق مسؤولياته. والأدلة كثيرة، عرفها الصينيون وتداولوها - وربما حفظوها عن ظهر قلب - منذ ان ظهر زو في مواقع المسؤوليات المتقدمة في الثمانينات، وطوال فترات تدرجه في المناصب التي كان آخرها منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية والمالية. فحينما كان مسؤولاً عن أحد مصانع الدولة في بدايات هذا العقد لم يتردد في فصل أحد كبار مرؤوسيه، لما بدا له ان هذا الأخير يتباهى في مواقع عمله بقدّاحة ثمينة مستوردة لا يغطي اجره السنوي جزءاً من ثمنها. وفي أعقاب توليه منصب عمدة محافظ شانغهاي، كبرى مدن الصين، في 1988 اكتشف ان معظم زملائه يدخنون السجائر الغربية الفاخرة، فلم يتردد في تأنيبهم واتهامهم بالكسب غير المشروع استناداً الى حقيقة ان رواتبهم المتواضعة لا تمكنهم من شراء استهلاك يوم واحد من هذه السجائر. ويُروى عنه انه أثناء تفقده قبل شهر واحد المنطقة الاقتصادية الخاصة في زيامين اكتشف ان مسؤولي المنطقة قد أخلوا الفندق الفاخر الوحيد فيها من جميع نزلائه تمهيداً لاستضافته فيه، وانهم الى ذلك ألغوا اجازات موظفيه كافة ليكونوا في خدمته، فما كان من زو الا ان رفض الاقامة في الفندق المذكور واصفاً تصرف المسؤولين بالعمل الأهوج ومحذراً من تكراره مستقبلاً تحت طائلة الفصل. هذه الصرامة، وهذا الاصرار على الانضباط المسلكي والمظهري جعلت الكثيرين يصفون الرجل الذي يعتبر المهندس المنفذ لحركة الانفتاح الاقتصادي في صين ما بعد ماو بالشخصية صاحبة "الوجه الحديدي" الذي لا تظهر عليه علامات الارتياح والسرور الا في حالات معدودة، لعل احداها مشاركته العمال البسطاء في تناول أطعمتهم المتواضعة، لا سيما حينما تكون المائدة محتوية على المخللات الحارة المصنوعة منزلياً في اقليم هانون والتي تستهويه بالقدر نفسه الذي كانت تستهوي ابن بلدته ماوتسي تونغ. على ان هذا ربما كان القاسم المشترك الوحيد ما بين ماو وزو والا لما طارد الأول الثاني طوال مرحلة الثورة الثقافية 1966 - 1976 ودفعه قسراً الى الظل. والذين قابلوا زو أو عرفوه عن كثب لا ينكرون صرامته، لكنهم يؤكدون انه في الوقت نفسه صاحب شخصية آسرة ودافئة، وان الأمر يتوقف فقط على الموقف والمناسبة. ففي مؤتمر رجال المصارف والأعمال الذي نظمه البنك الدولي في ايلول سبتمبر الماضي في هونغ كونغ، استطاع الرجل من خلال خطبه واجتماعاته واجاباته عن اسئلة الاعلاميين ان يقلب الصورة المترسخة عنه في الأذهان، وان يسرق الأضواء من رئيسه لي بينغ المنعوت بثقل الظل والافاضة الباعثة على الملل. فساد الاعتقاد ان زو استثمر بذكاء كل ما تعلمه في الغرب اثناء تنقلاته في وظائف السلك الديبلوماسي من مهارات لغوية ومعارف وعلوم. لكن المفاجأة جاءت حينما اكتشف أصحاب هذا الاعتقاد ان الرجل لم يسبق له ان خدم خارج بلاده وان مهاراته في اللغة الانكليزية والعلوم الاقتصادية انما هي مردود اصراره ودأبه الطويلين على تثقيف نفسه بنفسه من خلال الاستماع المكثف الى البرامج التعليمية والتثقيفية في الاذاعات الاجنبية، وتحديداً في الفترة التي نفته فيها الثورة الثقافية الى أقاصي الريف الصيني للعمل في مزرعة لتربية الخنازير. وما من شك في ان هذه العصامية الفذة خلقت له الكثير من المعجبين الذين رأوا فيه نموذجاً للتحدي والارادة الحديدية ومقاومة ضغوط السلطة الماوية وأدواتها، لكنها أيضاً خلقت له في المقابل حساداً واعداء كثيرين في دوائر الدولة الرسمية. وصاحب ارادة كهذه لو انه قدر له ان يرى النور في مرحلة سابقة من تاريخ الصين، لكان من الطبيعي ان يتسلق سلك الادارة الامبراطورية سريعاً وان يرتقي بنفسه الى أعلى المناصب الوزارية في سن مبكرة، لكن كان قدر زو ان يولد في 1928 أي في الفترة التي تعرضت فيها بلاده للغزو والاحتلال الياباني، وان يشب أثناء مرحلة الصراعات المريرة ما بين القوات الشيوعية والوطنيين، على ان هذه العواصف كلها معطوفة على يُتمه المبكر لم تستطع ان تزرع اليأس في نفسه. فواصل اجتهاده ومثابرته حتى تمكن في النهاية من انتزاع منحة دراسية للتخصص في مجال المكننة والهندسة الكهربائية في جامعة كينغهوا التي سرعان ما اختاره طلابها رئيساً لاتحادهم. وكالكثيرين من أقرانه من خريجي الجامعات الصينية أواخر الأربعينات، دفعه طموحه للمناصب الرفيعة وللعب أدوار قيادية في المجتمع الى الانضمام الى الحزب الشيوعي الذي كان وقتئذ يحقق الانتصار تلو الانتصار أمام فلول القوات الحكومية المتقهقرة، فحصل على عضويته رسمياً في 1949 الذي شهد قيام جمهورية الصين الشعبية، وذلك على رغم الشكوك التي أحاطت باخلاصه للحزب وايديولوجياته على خلفية وجود صلة قرابة كانت تربطه بأحد رموز حزب الكومنتانغ المهزوم. هذه الشكوك التي ظلت تحوم حوله طوال العقود التالية وتسببت لاحقاً في طرده من الحزب الحاكم في 1957 حينما صنّفه أعداؤه في خانة اليمين المعادي لثورة ماو، ثم أدت في الستينات الى ارساله الى معسكرات العمل واعادة التثقيف. ويمكن القول ان معتقدات زو الايديولوجية ظلت على الدوام مصدر تساؤلات كثيرة، لا سيما وان شخصيتين على قدر كبير من التناقض تبنتاه أثناء مشواره العملي، كانت أولاهما تشين يون الملقب بعراب التخطيط المركزي في الصين، وكانت الأخرى دينغ هسياو بينغ عراب الانفتاح الاقتصادي في الثمانينات. في مرحلة الدراسة الثانوية تزوج زو من رفيقته لاو آن التي رافقته بعد ذلك في مشواره الجامعي كطالبة في كلية الهندسة في الجامعة ذاتها، ثم كانت له نعم العون والسند طوال محنته في معسكرات العمل الاجبارية، وانجبت له ابناً وابنة تلقيا دراستهما في أميركا وتخرجا من جامعاتها، وعملت الأخيرة بعد عودتها في أحد المصارف الاستثمارية الاجنبية في هونغ كونغ. وكمثيلاتها من زوجات كبار المسؤولين الصينيين ظلت لاو في الظل، لا تظهر مع زوجها في الحفلات الرسمية ولا ترافقه في رحلاته الخارجية، لكنها كانت على الدوام حاضرة في قراراته المصيرية. وحينما عمل زو في الثمانينات كمسؤول عن تنظيم عملية نقل التكنولوجيا الغربية الى الصين ومراقبة مشاريع البلاد الكبرى وتشجيع الأجانب على الاستثمار فيها، لفت اخلاصه وانضباطه ومثابرته أنظار رأس الدولة وقتذاك زهاو زيانغ، فقرر الأخير ان يبعث به الى شنغهاي لمساعدة زعيم الحزب المحلي هناك جيانغ زيمين، فلم يمض عليه في مسؤوليته الجديدة عام الا وصدر قرار جديد بتوليه منصب عمدة المدينة المذكورة. واستطاع الرجل من خلال هذا الموقع ان يبرز أكثر فأكثر وساهم اخلاصه وترفعه والتزامه الصارم بخدمة المجتمع في تشبيهه بالقاضي الصيني باو الذي عاش في فترة حكم سلالة سونغ ما بين 960 - 1127 وعُرف بنزاهته وعدالته. وجاء يوم الخامس من حزيران يونيو 1989، ليواجه زو الامتحان الأصعب في حياته. ففي هذا اليوم خرجت المظاهرات الصاخبة في شوارع شانغهاي تأييداً لحركة المطالبة بالديموقراطية في ساحة تيان ان مين وتنديداً باجراءات بكين القمعية المتوحشة. وكان زو مطالباً بالحزم لاعادة الهدوء الى مدينته، فآثر الا يقتفي اثر رؤسائه في العاصمة بانزال الجيش في الشوارع، وتمكن من خلال الاعتماد على الشرطة المحلية وبث البيانات المتلفزة بصوته وصورته من انجاز المطلوب بأقل قدر من الخسائر، ما رفع رصيده في أوساط الحزب والدولة والشعب أيضاً. وحينما قرر الزعيم الراحل دينغ هسياو بينغ ان يستدعي جيانغ زيمين من شنغهاي ليتولى زعامة الحزب والدولة بدلاً من المغضوب عليه زهاو زيانغ، راحت أنظار الأول تفتش عمن يمكنه ان يعيد الثقة الى سياسات الانفتاح التي كانت تأثرت بأحداث القمع في تيان إن مين، فلم يجد رجلاً أفضل من زو الذي كان قد كوّن لنفسه شهرة كشخصية نظيفة الكف وملمة بالشؤون الاقتصادية. فتم استدعاؤه على عجل الى العاصمة في نيسان ابريل 1991، واسندت اليه مهام اقتصادية رفيعة، كانت احداها حاكمية مصرف الشعب الصيني، على رغم احتجاجات كثيرة من قبل بعض أعضاء الحزب الشيوعي الذين لم يكونوا يرون في الرجل سوى شخصية ذي توجهات رأسمالية واضحة. وتلك الاحتجاجات واجهها دينغ بالقول: "اننا في حاجة الى رجل اقتصاد حقيقي، وزو هو الرجل الوحيد الذي تنطبق عليه هذه الصفة، في حزبنا". وفي بكين وجد نفسه في بيئة سياسية لم يعتدها، ووسط أجنحة حزبية تتصارع خفية من اجل النفوذ، فيما هو وحيد دون قاعدة تدين له بالولاء أو تشد أزره عند الحاجة. ولئن أشاع هذا قدراً من الارتياح لدى جيانغ زيمين الخائف دائماً من بروز منافسين أقوياء له على الزعامة، فإنه بعث شيئاً من عدم الطمأنينة لدى زو لما قد تحمله له الأيام من مفاجآت. وهنا أيقن زو ان الضامن الوحيد لبقائه وصعوده هو اثبات كفاءته في ادارة البلاد اقتصادياً، فهو وحده سيخلق له الأنصار والنفوذ. ولم تمض سوى سنوات معدودة الا كان الرجل يقول وداعاً لقلقه السابق. وجاءت استقالته من قيادة مصرف الشعب الصيني في 1996 وتعيينه لأحد المحسوبين عليه في مكانه مؤشراً على ان الرجل صار قوياً الى الدرجة التي يستطيع معها ترك عرشه المصرفي مطمئناً لأنه بنى لنفسه نفوذاً في موقع متقدم آخر. وما من شك ان قرار ترفيعه الأخير الى رئاسة الحكومة قد أكد هذه الرؤية.