تشتهر فينيقيا في التاريخ العام انها انتجت الألف باء فأراحت الناس من الكتابة المقطعية أو الكتابة التصويرية. واصبح في إمكانهم أن يركّبوا الكلمات من حروف معينة بالعدد. هذا الرأي صحيح، إلا أنه يحتاج الى أساس. فالمحاولة للوصول الى الحروف الهجائية كانت بدأت قبل نحو خمسمئة سنة في منطقة تمتد من سيناء الى فينيقيا. ومع الوقت تركز العمل في فينيقيا وكانت النتيجة النهائية ان الحروف الهجائية"الألف باء"أصبحت فينيقية الأصل. تمّ هذا نحو القرن العاشر قبل الميلاد أي قبل ثلاثة آلاف سنة. واسم جبيل المدينة الفينيقية الكبيرة التجارية باللغة اليونانية هو بيبلوس، ومن هنا استعمل هذا الاسم لكتب مقدسة في مستقبل الأيام. فالكتاب المقدس المسيحي يُسمى Bible لأنه مشتق من بيبلوس. لكن هذه الشهرة الكبيرة لم تكن الوحيدة التي كانت فينيقيا مصدراً لها. كان هناك الصباغ الأرجواني وهو لعاب يُنتج من صدفة بحرية كانت تعيش في المناطق الفينيقية وهذه تنُز لوناً هو لون الأرجوان. ولأن اليونان كانوا يسمون هذا اللون فينيكي فقد انطبق هذا على فينيقيا فالاسم مشتق أصلاً من هذه الحشرة المائية. هذا الأمر عرف قبل نحو ثلاثة آلاف سنة ان لم يكن قبل ذلك. اكتشفت هذه الحشرة وأخذ العاملون في الصباغ يفيدون منها لاستخلاص اللون الأرجواني المميز عن الألوان الأخرى لأن له لمعة خاصة. ان ما يجب أن يتذكره المرء هو أنه من الضروري جمع 12.000 من هذه الأصداف لاستخلاص غرام ونصف الغرام من العصير. ومن ثم كانت الأقمشة التي تُصبح به مرتفعة الأثمان ولذلك أصبحت الثياب الرئيسة لأهل السلطة والملوك في المنطقة. لما انتشرت المسيحية في المنطقة كان رؤساء الكنيسة الكبار يلبسون الثوب الأرجواني ولا تزال الكنيسة الغربية تحتفظ بهذا بعد استعمال الأرجوان الصناعي. ثمة أمر آخر حري بالاهتمام بالنسبة الى فينيقيا مع انه جاء متأخراً عن الأمرين: اكتشاف الأرجوان واختراع الألف باء. ذلك انه في منطقة بعيدة المدى في شرق الصين اكتشف الناس سابقاً ان هناك شرنقة تنتج الخيط الحريري إذا ألقي القبض عليها في الوقت المناسب. وأصبحت هذه المنطقة تنتج الخيط الحريري ثم تنسجه أقمشة حريرية تنتشر تباعاً نحو الغرب. بدأت الصناعة هذه في تلك الجهات على ما يبدو في القرن العشرين قبل الميلاد، لكن بدء انتقالها الى الشرق كان مع أواخر الألف الثاني. لأنه في القرن الثاني قبل الميلاد لم يكن قماش الحرير قد وصل الى منطقة الشرق الأوسط. وهنا أخذ الصنّاع هذا القماش وصبغوه بالأرجوان فكان القماش الأغلى في العالم في ذلك الوقت. واتخذ رجال الحكم الكبار ورجال الكنيسة الكبار منه ثياباً لهم. هنا يأتي الدور الآخر لفينيقيا. لكن هذا السر الذي بقي مدة طويلة في الصين خرج على طرق هي أقرب الى الخرافة والأساطير حتى وصل في النهاية الى لبنان في القرن السادس الميلادي. لما بدأ انتاج الحرير في المنطقة. كان هذا بدائياً وظل مدة طويلة هكذا وفي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر أخذت القرى اللبنانية الجبلية تهتم بالشرانق والحصول على الخيط الحرير من النوع الممتاز وكانت هذه مهنة عدد كبير من السكان وكان الحرير اللبناني معروفاً. كانت الشرانق تُحل في لبنان وتُرسل الخيوط الى ليون. وكانت تجارة الحرير بين لبنان وليون في فرنسا مصدر ثروة كبيرة. هناك تُصاغ، تُنسج أقمشة وتُعاد للبيع في المنطقة. في هذه الفترة لم يعد ثمة لون أرجواني طبيعي وإنما كانا لقماش يُصبغ بألوان مختلفة. وظل يُنتج الحرير في لبنان طبيعياً وهو لونان: الأبيض والأصفر الفاتح. كانت هذه التجارة مهمة ومصدر رزق كبير لعدد من القرى اللبنانية. وظل الأمر كذلك خلال القرن التاسع عشر. ومع القرن العشرين تحولت كراخانات الحرير أي الأبنية الكبيرة المعدة للعناية بالشرانق الى أبنية مهجورة. ومن الأمثلة على ذلك شملان ودير القمر وبتاتر وسواها. هذا مما نقرأه في كتابٍ ألفته ورسمت رسومه يمنى جزار مدلج ونشرته دار النهار سنة 2005.