مع هذه الزاوية، تفتح"الحياة"ملف الاسهام العربي في مسار العلوم راهناً، عبر تقديم علماء عرب يساهمون فعلياً في ما تصنعه الانسانية في المجال العلمي. يبدو ملفاً شائكاً، اذ لا ينعقد الاجماع على شيء أكثر من القول بتخلف العرب عن ركب تطور العلم عالمياً. فمنذ نحو اربعة قرون على الاقل، انتقل ثقل العلم إلى الغرب، في البداية اوروبا ثم اميركا، مترافقاً مع صعود مشروع العقلانية الغربية بتلاوينه المختلفة. وغيّر العلم أوجه عيش الانسان على الارض بصورة هائلة. ومع الثورة الصناعية، دخلت الانسانية طور التآزر بين الانسان والآلة في رسم مشهد الحياة على الكوكب الازرق. ومنذ الثورة الصناعية، تتالت تلك الانجازات التي صنعتها عقول الحضارة الغربية: الآلة الميكانيكية البخار ثم الفحم الحجري وتلاهما البترول والسيارة والقطار والطائرة والصاروخ والغواصة، وتلتها الكهرباء وآلاتها بما فيها المصباح الذي قلب علاقة الانسان بالليل والنهار، ثم العصر الالكتروني مستحضراً معه الراديو والتلفون والتلغراف والفيديو والكومبيوتر والانترنت والخليوي والروبوت وغيرها. ومع هذا الخط، نهض تطور قوي في مختلف مناحي العلوم، وخصوصاً في مناهج البحث وأدواته. وكمثال، سار الطب بخطى سريعة ليصل إلى عصر الاستنساخ وفك شفرة الجينوم الانساني وثورة الجينات وغيرها. ويلاحظ ان ثمة تواصلاً في هذا النهوض العلمي، اذ تبنى الانجازات اللاحقة على ما سبقها وتتفاعل معها. حدث تراكم عالمي هائل للمعرفة في الغرب. وبُنيّت حضارة تتسارع انجازاتها العلمية بوتيرة متسارعة. ثمة بنية علمية شديدة الضخامة، تتفاعل يومياً مع الفكر البشري عموماً. ولا بد من الاشارة بالطبع الى انه يمكن رؤية الجانب الآخر هل هو آخر؟ وبأي معنى؟ الشديد القتامة والقسوة لهذه الصورة من التقدم العلمي، بما في ذلك علاقة العلم بالانسان والعقل والعالم، لكنه أمر يفيض عن مقال منفرد. وكذلك لا يتسع المقام ولو لملامسة البحث في اسئلة من نوع: هل يمكن الخروج من التخلف؟ وكيف؟ وما هي علاقة التخلف والتقدم العلمي بالحضارة والعقل الانساني عموماً وغيرها من الاسئلة الجمّة التي ترافق الحديث عن"التخلف"وپ"التقدم". ومع تراكم المعرفة وأشياء كثيرة اخرى غرباً، بات العرب اسرى فجوة التخلف، التي تتسع يومياً بسرعة مذهلة. يمكن بسهولة رسم صورة قاتمة عن العلوم عند العرب راهناً. وفي ذلك الظلام، ثمة عقول عربية تلتقط خيط العلم بصبر، وتتعامل معه بدأب، لتقدم انجازات فعلية، وتنال اعتراف العالم الذي تسهم في علومه. ومنذ زمن ليس بالقصير، يتدفق شباب عربي إلى الغرب ويتألق علمياً فيه، على مستوى فردي تماماً. ربما تصلح كنماذج اسماء مثل أحمد زويل حائز جائزة نوبل للكيمياء عام 1999 ومجدي يعقوب حاز لقب سِيْر من الملكة اليزابيث تقديراً لانجازاته في مجال جراحة القلب وحسن الصَبّاح صاحب مجموعة من براءات الاختراعات في اميركا، اضافة إلى عشرات أساتذة الجامعات والعاملين في مراكز البحوث في الغرب، وغيرهم. والمفارقة ان البعض"ينام"على ماضي النهوض العلمي للحضارة العربية - الاسلامية، إلى حد أن ذلك النهوض يبدو أحياناً وكأنه عثرة في سبيل التقدم في الزمن الراهن! كمثال على ذلك، تشدد بعض الدعاوى الدينية المتطرفة على معادلة تبسيطية وميكانيكية جامدة: ننهض في الحاضر بتكرار ما حصل في الماضي. وتُغفل هذه النظرة أن المجتمعات وتطورها هو أمر سَيّال ومُتَغَيّر دائماً، كما لاحظ علماء الاجتماع دوماً منذ ابن خلدون في القرن الثالث عشر، الذي يعتبره البعض آخر التماعة في اشراقة العلوم العربية ماضياً على العالم. ولربما احتجنا إلى نظرة أكثر عمقاً. وربما تطلب الأمر علاقة حضارية مُركبة ومُتَشابكة مع الماضي العربي - الاسلامي كي نستفيد منه بطريقة مُجدية وتفتح الزاوية باسهام نسوي من العالم العربي. فيما المرأة تعاني تمييزاً قاسياً يسعى لوضعها قسراً في تخلف مقيت. وبعبارة موجزة، فان تخلف العالم العربي يُترجم بوضع قهر مزدوج للمرأة العربية. ولذا، فأن تتمكن امرأة عربية من تحقيق انجاز علمي يعترف به الغرب، يعني انها تجاوزت هوتين: تخلف وضع المرأة في الدول العربية، وتخلف العرب عموماً حيال العالم. هل هي النسخة العربية النسوية المعاصرة من العالم العربي الكبير ابن الهيثم؟ تردد هذا السؤال في ذهني كثيراً اثناء اللقاء مع الباحثة في علم فيزياء الضوء، زهرة بالأخضر. والحال انها اهتمت بالضوء, وخصوصاً استخدام الضوء في معرفة التركيب الداخلي للمواد بأنواعها، إلى حد انها"تراه"في كل مكان. هل تريد أن تعرف درجة التلوث في الجو؟ ما عليك سوى ان تستخدم التحليل الطيفي الضوئي للهواء فتحصل على الاجابة. هل هذا الشخص مُصاب بالسرطان؟ ربما اذا أجرينا تحليلاً ضوئياً معمقاً لأنفاسه، نستطيع معرفة الجواب! هل المطلوب ان نعرف لماذا يتجعد الشعر إثر الرطوبة، ولماذا تحصل الافريقيات على شعور مجعدة؟ علينا استعمال التحليل الطيفي للشعر المُجعّد وخلاياه للوصول إلى معرفة سر التجعّد. وتضحك بالأخضر لتضيف بأن تلك المعرفة قد تُمكن من صنع مادة تُبقي الشعر ناعماً، وكذلك تحوّل الشعر الأجعد إلى نسيج من حرير متطاير! وتشرح ايضاً ان علم الضوء متصل بقوة بالعلوم الذرية وقواها. ولذا، فان تحليل الضوء يمكننا من معرفة تركيب الاشياء كافة: من النجوم البعيدة في المجرات، إلى خلايا الجسم البشري، مروراً بالماء والهواء والنبات وغيرها. انه الضوء. انه الضوء. إلى أي حد يمكن القول انها المرأة المسكونة بالضياء؟ وأمضت هذه الباحثة التونسية أكثر من 20 سنة في مختبر الفيزياء في جامعة"المنار"الذي أسسته بنفسها عقب نيلها دكتوراة في الفيزياء من فرنسا في الثمانينات قبل أن تتوج"منظمة الاممالمتحدة للعلوم والثقافة"يونيسكو هذه المسيرة بمنحها جائزة أفضل عالمة في أفريقيا العام 2005. ووضعتها الجائزة على قدم المساواة مع أربع باحثات سطع نجمهن في القارات الأخرى، أتين من الولاياتالمتحدةوفرنسا والبرازيل واليابان. وأثنت ممثلة منظمة ال"يونيسكو"في تونس فاطمة طرهوني على دور الدكتورة بالأخضر في تطوير البحوث الفيزيائية في بلادها. وأشارت إلى أن ألفي باحثة من جميع القارات ترشحن لنيل جائزة"اليونيسكو"العام الماضي. وفازت خمس منهن، بمعدل امرأة لكل قارة. الضوء يتعرف الى تلوث الأنفاس والسرطان تتحدث بالأخضر، التي كانت أول أستاذة جامعية للفيزياء في تونس عن المسائل التي ركزت عليها بحوثها. وتوضح أنها تعمقت في البحوث النظرية المتصلة بمعرفة التركيب الدقيق لطبقات الغلاف الجوي للارض والمواد التي تؤلفه، بما في ذلك المواد التي تلوثه وانصب قسم من بحوثها على الجوانب التطبيقية المباشرة، مثل البحوث عن التحليل الطيفي الضوئي لغاز الميثان، الذي يُعتبر المصدر الاساسي للتلوث في الكثير من المدن التونسية. وتناولت أيضاً استعمال التحليل الضوئي لتحديد درجة تلوث الماء وأبخرته، مما يفتح مجالاً أمام التوصل لمعرفة التغيير الذي يصيب بخار الماء في أنفاس مرضى السرطان. وتؤكد بالأخضر أنها تتطلع في المرحلة المقبلة الى الحصول على جائزة نوبل للفيزياء."أنا متفائلة ومثلما أحرزت جائزة أفريقيا للفيزياء من اليونيسكو لم لا أقطف جائزة نوبل العالمية للفيزياء"؟ وأوضحت أنها كلما استكملت تجربة علمية وتوصلت إلى كشف سر من الأسرار الطبيعية أو الفزيائية، تشعر بأنها تسير إلى عمق آخر، فكأنها تنتقل من سر إلى سر، فتأخذها التجارب إلى المزيد منها. وتعترف بأن مسيرة البحوث والتجارب سارت على حساب أسرتها وراحتها الشخصية، ما يحرمها من الإقتراب أكثر من بناتها. وتدير بالأخضر راهناً قسم الفيزياء في كلية العلوم التابعة لجامعة"المنار"التونسية، حيث تُدرس مادة الفيزياء النووية والجزئية. وفي المقابل، تشدد على أن اختيارها لتكون ضمن"الخمس باحثات الإستثنائيات في العالم"عام 2005 أتى تتويجاً لعمل جماعي، امتد على مدار سنوات طويلة، أداه فريق مؤلف من خمسة وأربعين باحثاً في مختبر الفيزياء الذرية والجزئية في كلية العلوم التونسية، اضافة إلى ما استعان به ذلك الفريق عينه من خبرات أجنبية. وفي معرض ردها على سؤال عن دور المرأة في البحث العلمي، نبهّت بالأخضر إلى أن الباحثات بدأن يتبوأن مكاناً متميزاً في جامعات تونس ومراكز بحوثها. وتشير إلى أن نسبة السيدات في مختبر الفيزياء الذي تُديره وصلت إلى ثلاثين في المئة راهناً. وتتحدث بفخر عن اسهام نساء العالم الثالث في مسار العلم عالمياً، إلى درجة أن بعض البلدان الصناعية المتقدمة باتت أكثر ثقة بكفاية علماء الدول النامية عموماً. وتحض الشباب والأجيال الجديدة عموماً على الإستفادة من نتائج الأعمال التي يقوم بها الباحثون في المختبرات التونسية والسعي الى دعمها بالإستفادة من التجهيزات القائمة. وتؤكد أن البحوث في مجال الفيزياء تساعد الإنسان على معرفة البيئة التي تحيط به بجميع تجسيداتها وتفاعلاتها. و في هذا السياق، اقترحت إنشاء مركز تونسي أفريقي يتولى تأطير الباحثين الأفارقة، ويساعد في تبادل الخبرات بينهم في جميع مجالات البحث العلمي. ولا تفوتها الاشارة، في مقابل ذلك، إلى الصعوبات الكبيرة التي واجهتها في بداية مسيرتها العلمية، والتي تمثّلت خصوصاً في قلة المختبرات والتجهيزات المتطورة، وندرة المهندسين والباحثين المتخصصين وغيرهما. وترى إن بعض تلك العوائق مازال موجوداً، لكنها تمتنع عن الخوض في التفاصيل. وأخيراً، تعتبر الباحثة بالأخضر أن الحل للقضاء على العراقيل يتمثل بإنشاء أكاديمية أفريقية متخصصة في شؤون البحث العلمي، وذلك ما تدأب على الدعوة اليه منذ سنوات طويلة.