ربما ندر أن يتمكّن شاب عربي من تحدي قلّة موارد أسرته وضآلة إمكاناته ماديّاً، ليواصل السير في مسار علمي متألّق، بمثل ما فعله الأميركي - اللبناني محمد أبو الفتح سليمان (مواليد بيروت 1983). تألّق هذا الشاب في علومه الجامعية داخل وطنه وخارجه، بل اقتحم مركز بحوث بارزاً علميّاً تضمّ صفوفه 12 عالماً من الفائزين بجائزة «نوبل». هل يمثّل سليمان بداية لجيل من العلماء العرب الشباب في المهجر، أكثر جرأة من الأجيال السابقة عليه؟ مصادفة فرنسيّة تنتهي في...«باركلي»! تخرّج سليمان في كلية العلوم في الجامعة اللبنانيّة في العام 2004. ودفعه تفوّقه الدراسي ورغبته الجامحة في التخصّص بعلوم الكيمياء، إلى السفر صوب المراكز العلميّة في الغرب. وجمع المال اللازم للسفر بنفسه، عبر إعطاء بعض الدروس الخصوصيّة. وصادف أنه تعرّف إلى أستاذ فرنسي زار كلية العلوم في الجامعة اللبنانيّة. وتعّهد الفرنسي لسليمان بتوفير مسكن له وقبوله بين طلبة الماجستير الذين يشرف عليهم في فرنسا. سافر سليمان إلى ليون (2005)، ثم تخرّج في جامعتها بشهادة دكتوراه في الكيمياء التحليلية والبيئية. وبعد تخرّجه، تابع سليمان بحوث ما بعد الدكتوراه في «مختبر لورانس بِركلي الوطني» Lawrence Berkeley National Laboratory، التابع أكاديميّاً ل «جامعة كاليفورنيا» وحكوميّاً لوزارة الطاقة الأميركية. وما زال سليمان يعمل في هذا المركز بوصفه باحثاً علميّاً، لحد الآن. في سياق تحضيره شهادة الدكتوراه في ليون، قدّم سليمان بحوثاً متطوّرة عن تحلّل غاز ثاني أُكسيد الكربون، والمواد الكيماوية الناتجة من استخدام أشعّة الشمس لإزالة التلوّث من الهواء والماء. ولاحِقاً، اعتُمِدَت تلك البحوث كمقياس أوروبي لدراسة فعاليّة عمليات «التحفيز الضوئي» photo catalysis في معالجة التلوّث البيئي. ولدى انتقاله إلى «مختبر بِركلي»، عاود تركيز بحوثه حول مشاريع تتعلّق بملوّثات البيئة ومخاطرها صحيّاً، خصوصاً دخان مُخلّفات التبغ الذي يُشار إليه بمصطلح «ثيرد هاند سموك» Third hand smoke. وظهر هذا المصطلح في العام 2010، وترجمته «دخان اليد الثالثة»، مع ملاحظة أن «اليد» الأولى تتمثّل في الدخان الذي يتنشّقه المُدخّن مباشرة، والثانية هي الدخان الذي يتنشّقه من يتواجد في المحيط المباشر للمُدخّن، وأما الثالثة فتتمثّل في الدخان والروائح التي تتلبث في مكان التدخين ولكنها تؤثّر في أولئك الذين لم يكونوا في محيط المُدخّن إبّان عمليّة التدخين. ولا يقتصر تأثير دخان «اليد الثالثة» على ما ينبعث منه من رائحة كريهة، بل ما يحمله من سموم تصيب أشخاصاً غير مُدخّنين وتُلوّث أمكنة السكن أيضاً. وفي مقابلة مع «الحياة»، تحدّث سليمان عن «اليد الثالثة» مشيراً إلى أن بحوثه أكّدت أن النيكوتين، وهو أحد مُخلّفات التبغ، يتلبّث طويلاً في أمكنة التدخين، بل يبقى شهوراً خصوصاً في الأمكنة المُغلَقَة كالمصعد والسيّارة والمطعم والمقهى والملهى. وشدّد على أن هذه المُخلّفات تترسب على قِطع الأثاث والمقاعد والجدران والسجاد والمُسطّحات الأرضية، إضافة إلى ثياب المُدخّن وشعره. السقوف البارِدَة في السياق عينه، لفت سليمان إلى أن دخان «اليد الثالثة» يحتوي على نيكوتين، يتفاعل مع مادة الأوزون كي يُكوّن جزيئات كثيرة متناهية الصغر لا يزيد حجمها على 100 نانومتر (كل نانومتر يساوي جزءاً من ألف من المليون من المتر)، ما يسهّل دخولها إلى الجسم. تشبه هذه الجزيئات كوكتيل السموم الذي ينبعث من عوادم السيّارات. لنلاحِظ أيضاً أن أكسَدَة الأوزون والنيكوتين يشكّل تهديداً للمُصابين بالربو بأشد مما يفعل النيكوتين نفسه، لا سيما الأطفال الذين يزحفون على الأرض فيتنشّقون هذه المواد الكيماوية السامّة ممزوجة مع ذرّات الغبار. وكذلك أكّد سليمان أن النيكوتين يتفاعل مع مُركّب آخر هو «حمض النترروز» Nitrous Acid، مُكوّناً مادة ال «نتروزامين» التي توجد عادة في الأجهزة التي تستعمل النار كالمواقد وال «بوتاغاز». كما يتشكّل مُركّب ال «نتروزامين» سريعاً في الغرف التي يتلبّث فيها دخان السجائر، ما يؤدي أيضاً إلى إنتاج مواد كيماويّة مُسرطِنَة تهدّد صحة البشر. ولفت سليمان إلى أن التهوئة التقليدية للأمكنة الملوثة، يمكنها أن تزيل قرابة نصف كميّة الدخان والنيكوتين العالِقة على الأسطح، في حين تبقى الجزيئات الأخرى فعّالة لشهور عدّة، حتى بعد إخلاء المنزل أو إعادة طلاء جدرانه. ولذا، حذّر سليمان من استخدام غرف الفنادق والشقق المفروشة والسيارات المستعملة، بعدد تعرضّها لملوّثات التدخين. وفي مجال بيئي آخر، يقود سليمان فريقاً من الباحثين في مشروع يسمى «السقوف الباردة». ويسعى المشروع الى لمساهمة في تخفيف ظاهرة الاحتباس الحراري. «يهدف المشروع إلى طلاء أسطح المباني باللون الأبيض الذي يعكس أشعة الشمس، ويمتصّ 10 في المئة منها. ومن المستطاع استعمال ألوان اخرى تعكس الأشعة تحت الحمراء، وتمتصّ ما يتراوح بين 30 في المئة و40 في المئة من أشعة الشمس. ويؤدي هذا إلى تبريد الأبنية، ويقلّل من اعتماد المُدُن على أجهزة التكييف، كما يحقّق وفراً كبيراً في الطاقة، ويخفض تلوّث البيئة»، بحسب كلمات سليمان. ويجري تنفيذ مشروع «السقوف الباردة» في «مختبر بِركلي». وبيّن سليمان طريقة العمل قائلاً: «نعمل على إدخال عناصر مختلفة تؤثر على سطوح الأبنية، من بينها الضوء والحرارة والماء والهواء والتلوّث، عبر جهاز متطوّر يمكن التحكّم به بواسطة الكومبيوتر الذي يجري محاكاة افتراضيّة عما تتعرّض له تلك السطوح طبيعيّاً. وأصبح هذا المشروع مقياساً أميركيّاً يجري العمل عليه في 100 من المُدُن المكتظّة بالسُكّان. وأشاد كثير من المجلاّت العلميّة المتخصّصة بالتلوّث، ببحوث سليمان عن ملوّثات التبغ، بل وُصِفَت تلك البحوث بأنها واعدة علميّاً. ومُنح سليمان عدداً من الجوائز أهمّها الممنوحة من «جامعة كاليفورنيا» (1911) لأفضل باحث شاب في الأمراض المرتبطة بالتبغ، و «الرابطة الوطنيّة الأميركية للكيمياء» وغيرهما.