مهنة "النادلة"، قد يصعب أن تجد بين الجزائريين من يفهم مدلولها بالفصحى، ما لم تترجم الكلمة إلى الفرنسية serveuse. فغالباً ما يتم الربط ? خطأ وظلماً - بين كلمتي نادل ونذل! وحتى وقت قريب، كان الكثير من الشباب الجزائريين، لا سيما بين حاملي الشهادات، ينفرون من هذه الوظيفة وينظرون إليها بعين الازدراء، لأنها"تعني القبول بالذل والهوان". لكن الحاجة وغلاء المعيشة طوّعا الكثير من القناعات والمعتقدات، وجاءت العقلية العصريّة لدى شريحة من الشباب لتقوم بالباقي! لم تعد مهنة النادل تخيف الطلاب والمتعلمين, ولم تعد حكراً على الشباب الذكور، بل اخترقتها الفتيات اللواتي تكتظ بهن المقاهي ومحلات ال"بيتزيريا"، بعدما كان ذلك"عيباً"، - ولا يزال - في ذهن فئات كبيرة من المجتمع. حكيم مدير مطعم صغير في ساحة أودان وسط العاصمة، اختار توظيف أربع فتيات يشرفن على مقابلة الزبون وشابين يتوليان تحضير الأطباق. يبرر اختياره بقوله:"أفضل توظيف الفتيات لأنهن أكثر هدوءاً من الرجال في التعامل مع الزبون. فليس سهلاً أن تقابل على مدى 12 ساعة زبائن بأمزجة مختلفة. ويطلب بعضهم مثلاً أن تسرع في تلبية طلباته قبل الآخرين، ويتحججون بارتباطهم بمواعيد عمل وأشياء أخرى، وأنت مجبر على التعامل مع مزاجهم لئلا تفقدهم". ويضيف:"كما أنّ الفتيات أكثر تركيزاً في العمل ويطبقن التعليمات. أما الرجل فيرفض الانصياع لكثير من الأوامر، ويرفض أي انتقاد لأنه يراه مساً بكرامته. وكثيراً ما يستغل النادل الفرص لپ"معاكسة"زبونة ما يتسبب بمشكلات وشجارات أحياناً". وتقول ليليا 18 عاماً:"أجبرت على القبول بهذه المهنة، ليس لي خيار آخر، لقد درست المحاسبة في معهد تقني، وأنا هنا إلى حين الحصول على وظيفة في اختصاصي". ومن دون أن تكف عن خدمة الزبائن، تستطرد قائلة:"لقد عملت نادلة في مطعم آخر ثم غادرته وعدت إلى المهنة ثانية مجبرة لأساعد والدتي، إنها مهنة شاقة. نعمل من الثامنة صباحاً حتى السادسة مساء وستة أيام في الأسبوع، نتعرض خلالها إلى انتقادات وأمزجة الزبائن المختلفة. عليك تخزين أعصابك في الثلاجة إذا ما أردت الاستمرار في العمل". أما سهام 35 عاماً فتعتبر نفسها خبيرة في المهنة التي عرفتها منذ سن العشرين:"نحن في الجزائر نقول: اكسب الدورو أدنى قطعة نقود وحاسب البطّال، ولذلك فأنا أعمل، لأنه لا سبيل آخر لدي. يمكنني أن أصدر كتاباً حول مغامراتي مع الزبائن، إنها أكثر المهن إثارة للأعصاب. فالأستاذ بيده سلطة إسكات تلاميذه، أما نحن فليس في يدينا حيلة. هناك من جهة صاحب المحل الذي يهدد بطردنا عند أصغر خطأ نرتكبه، والزبون الذي يكون دائماً على حق". وتضيف مبتسمة:"على رغم كل تلك المتاعب، فأنا أحب هذه المهنة ولم أعد قادرة على التخلي عنها". أناقة... فأجر محترم وتحظى آمال باهتمام معظم الزبائن الذي يدخلون المطعم الذي تعمل فيه في منطقة سطاوالي السياحية نظراً لوسامتها، وتعترف بأن أناقتها منحتها أجرة محترمة من مسؤولها، لأن عشرات الزبائن الأوفياء يقصدون المطعم خصيصاً لرؤيتها والاستمتاع بخدمتها:"معظم الشباب يأتون إلى هنا ويصرون على أن أخدمهم شخصياً، ولك أن تتصور كمّ الغزل الذي أسمعه، بين من يطلب الزواج، وآخر يلقي بقصاصة تحمل عنوانه يطلب موعداً لمقابلته، وهكذا دواليك". وتتابع ضاحكة:"ليس الجمال نعمة في كل الأحيان، كثيرات يتعرضن لمضايقات عنيفة، يجبرن على ترك الوظيفة أو الاستسلام لإغراءات الزبون، وأحياناً حتى صاحب المحل ينافس زبائنه في التحرش". وبعيداً من هواجس التحرش والمغازلات، يشكو العديد من النادلات من تدني أجورهن. ويعترف حكيم بتواضع الأجرة التي تتلقاها النادلة والتي قد لا تتعدى 150 دولاراً شهرياً، لكنه يستدرك قائلاً:"اعتاد الزبون الجزائري على ثقافة جديدة، وهو ترك بقشيش للنادل. وكثيراً ما يطلب الزبون مناداة نادلة بعينها ويقدم لها مبلغاً محترماً مقابل خدمتها، ويصر كل مرة أن تخدمه شخصياً". هكذا، تتعدد قصص ومغامرات النادلات مع الزبائن، بينما يجمع معظم أصحاب المطاعم ومحلات البيتزا وبيع الملابس على أنّ توظيف الفتيات يدر ارباحاً أكبر على صاحب المحل، خصوصاً أن الاجور في هذه المهن منخفضة، لأن ثقافة الخدمات حديثة بالنسبة الى المجتمع الجزائري الذي انقطع عنه السياح طيلة عقد كامل. وفي الجانب الآخر، يرفض الكثير من الشباب الجزائريين الارتباط بنادلة ولو كانت جميلة. ويقول رضا 29 عاماً:"أنا أحترم الظروف التي تضطر الفتاة الى العمل كنادلة. لكن أعترف أنني أرفض أن تعمل زوجتي نادلة في مطعم. فهي معرّضة للتحرش والغزل والمضايقات باستمرار. وكنت سأقبل لو كنت أنا صاحب المحل لأنني سأعتني بها ولن أسمح لأحد بمضايقتها". كثيرة هي الوظائف التي يخجل بها الشباب الجزائريون أو ينفرون منها. فليس سهلاً أن تقنع خريجاً جامعياً بالعمل في ورشات البناء، أو حارساً في مدرسة أو حارساً شخصياً، أو حتى موظفاً بسيطاً في البلدية، ما لم تغره بأجر يجعله يتغاضى عن الشعور بالنقص. إنه منطق"الأنفة"أو"النيف"كما يسميه الجزائريون، ويجعل الكثير من الشباب يرفضون العمل تحت"رحمة الآخر"، لأن ذلك يعني لديهم القبول بالهوان أو ما يصطلح عليه باللهجة العامية"الطْحِين"، منطق استفزّ الرئيس بوتفليقة شخصياًَ فلم يتوان من السخرية من هؤلاء الشباب الجزائريين وهو يتحدث عن البطالة في حوار إعلامي، مشيداً بشاب مصري حمل إليه القهوة مبتسماً ولم يحرجه عمله، على رغم حيازته شهادة مهندس.