شكّلت العودة المفاجئة لعمليات خطف السياح الاجانب في اليمن صدمة للأوساط الاقتصادية والاستثمارية في هذا البلد، إذ يعتبر القطاع السياحي فيه المصدر الأساسي الذي تراهن الدولة على ازدهاره في عملية النمو. وكانت عمليات الخطف بدأت في العام 1993 من خلال اقدام رجال القبائل على احتجاز سياح أجانب والمطالبة بفديات أو الضغط على الدولة لتحقيق مطالب. وذورة عمليات الخطف كانت تلك التي قام بها تنظيم أصولي وانتهت بمقتل عدد من السياح والخاطفين. توقفت هذه العمليات لسنوات ثم عادت لتبدأ في نهاية العام الماضي ومطلع هذا العام. هنا تحقيق من حلقتين يتناول أسباب عودة هذه الظاهرة وآثارها على الاقتصاد اليمني. لم تمض بضع ساعات على الاعتذار الرئاسي لعائلة المانية تعرضت لعملية خطف من قبل مسلحين ينتمون لإحدى القبائل اليمنية في محافظة شبوه شرق البلاد وفي أثناء تناول وسائل الإعلام اليمنية والخارجية لتصريحات الرئيس علي عبدالله صالح التي أكد فيها - بعد لقائه بالعائلة الألمانية المحرره - إدانته لجرائم خطف السياح الأجانب في بلاده من قبل فئة وصفها بالخارجة عن القانون... وقبل انقضاء نحو 20 ساعة على تحرير الرهائن الألمان، أقدم مسلحون ينتمون الى احدى القبائل في محافظة مأرب المجاورة شرق صنعاء على خطف خمسه سياح إيطاليين رجلين وثلاث نساء في عملية جديدة كانت الرابعة خلال اقل من ستة أسابيع، ما أثار استياء عارماً في الأوساط الشعبية وانتقادات عنيفه للحكومة من قبل صحافة المعارضة والصحافة المستقلة وشخصيات اجتماعية وبرلمانية وقبلية. وحمّلت هذه الانتقادات الحكومة مسؤولية تفشي ظاهرة خطف الأجانب"نتيجة رضوخها لابتزاز الخاطفين واللجوء إلى المساومات معهم خارج القانون، ما افقد الدولة هيبتها واضعف نفوذها"في المناطق التي كانت مسرحاً لفصول متكرره من الاختطافات منذ عام 1993. ويأتي في مقدم هذه المناطق محافظة مأرب التي شهدت غالبية عمليات الخطف التي انتهى معظمها بإطلاق الرهائن عبر مفاوضات لجأت إليها السلطات الحكومية عبر وسطاء من وجهاء القبائل أو من جانبها بصورة مباشر. الألمان في طليعة المخطوفين ! وشهد اليمن أكثر من 60 عملية خطف منذ عام 1993 استهدفت أكثر من مئتي سائح أجنبي ويدبلوماسيين غربيين معظمهم ألمان. وظاهرة خطف الأجانب تتمثل في لجوء بعض القبائل إلى خطف سياح غربيين بهدف الضغط على الحكومة ومساومتها وإجبارها على تلبية مطالب الخاطفين وقبائلهم. ومن المستبعد أن يقدم احد على مثل هذا العمل من دون علم القبيلة ومن دون حمايتها خصوصاً ان كثيراً من مطالب الخاطفين تعد جزءاً من مطالب القبيلة. وباستثناء عملية خطف تعرض لها 16 سائحاً غربياً في كانون الأول ديسمبر 1998 ونفذتها جماعة إسلامية متشددة في محافظة أبين جنوب البلاد وانتهت بمقتل 4 سياح وعدد من الخاطفين وإعدام زعيم الجماعة أبو الحسن المحضار في وقت لاحق من عام 1999 بناء على حكم قضائي، فإن بقية العمليات التي حصلت قبل هذا الواقعة"الشهيرة"وبعدها لم تكن دوافعها سياسية وتندرج ضمن الجرائم الجنائية"الحسيميه"التي يلحظها قانون الاختطافات الذي صدر عام 1998 وتمت بموجبه محاكمة المحضار وأتباعه. وفيما عدا محاكمة أخرى قبل أربع سنوات لخاطف ينتمي الى إحدى القبائل في مأرب صدر بحقه حكم بالسجن 20 عاماً تم إطلاق سراحه بعد عام تقريباً في ظروف غامضة، فإن"قانون الاختطافات"الذي ينص على عقوبة الإعدام كعقوبة قصوى لمرتكبي جريمة الخطف والسجن من 10 إلى 25 سنة للمتورطين في هذه الجريمة، ظل حبيس أدراج القضاء اليمني من دون تفعيل إلى أن قدمت السلطات الأمنية اليمنية أخيراً للمحاكمة 6 خاطفين اعترفوا أمام المحكمة بخطف خمسة سياح إيطاليين في الأول من كانون الثاني يناير الجاري في منطقة صرواح التابعة لمحافظة مأرب وينتمون لقبيلة جهل من آل الزايدي. وتحظى هذه المنطقة بنصيب الأسد في سلسلة الاختطافات التي شهدها اليمن منذ عام 1993. وقال الخاطفون إنهم أقدموا على فعلتهم للضغط على الحكومة لكي تطلق سراح 8 معتقلين في سجونها من أقاربهم موقوفين منذ سنة من دون محاكمة على ذمة قضية جنائية. تهديد وتفاوض! في عدد من الاختطافات تقوم القوات الحكومية بمحاصرة الخاطفين في المنطقة التي يحتجزون فيها الرهائن وتمارس نوعاً من الضغط العسكري والتهديد باستخدام القوة لتحرير الرهائن. غير أن عملية الاقتحام الشهيرة التي نفذت لتحرير السياح الغربيين في محافظة أبين في نهاية عام 1998 من قبضة محتجزيهم الإسلاميين المتشددين بزعامة المحضار وأسفرت عن مصرع 4 اشخاص، دفعت بالسلطات اليمنية إلى التراجع عن أي خطوة من هذا النوع لتحرير الرهائن واللجوء الى الخيارات السلمية"المعتادة"، خصوصاً أن الدول التي يكون الرهائن من رعاياها ترفض استخدام القوة وتطلب من الحكومة اليمنية إتباع الوسائل السلمية لتحرير الرهائن حفاظاً على أرواحهم. وتشابهت مطالب الخاطفين في العمليات الأربع الأخيرة كما في سابقاتها وتمثلت بإطلاق سراح معتقلين من أقارب الخاطفين من سجون الأمن بالإضافة إلى المطالبة بتعويضات كانت الحكومة التزمت تقديمها، على غرار ما حصل لمتضررين قصفت القوات الحكومية منازلهم في اشتباكات مع مطلوبين من أبناء قبيلة الزايدي خاطفي السياح الإيطاليين في منطقة صرواح. علماً ان تلك القبيلة دخلت في خصومه امتدت لأكثر من 10 سنوات مع السلطات الحكومية ولم تنجح الوسائل العسكرية ولا الحلول القبلية التقليدية في إنهائها حتى اليوم، ولم تكشف السلطات الحكومية عن مطالب الخاطفين التي وافقت عليها وعن المطالب التي رفضتها في المفاوضات التي انتهت بإطلاق الرهائن من دون اللجوء الى القوة العسكرية إجراءات وكان أول رد فعل على خطف السياح الإيطاليين في مأرب بعد يوم واحد على تحرير الرهائن الألمان في محافظة شبوه المجاورة، إقالة محافظي مأرب وشبوة بقرار رئاسي، فيما أقال رئيس الوزراء بقرار حكومي مديري الأمن في المحافظتين و مدير أمن محافظة أبين التي تشهد هي الأخرى مشكلات أمنية تتعلق بجهود الحكومة في مكافحة الإرهاب. وكانت الحكومة اليمنية حشدت تظاهرات سلمية شارك فيها مؤسسات مدنية وجماهيرية وجمعيات سياحية وفنانون ومثقفون ورجال أعمال تنديداً بحوادث الخطف. وطالبت هذه التظاهرات الحكومة باتخاذ إجراءات جادة وعملية لمعاقبة المتورطين، وبدت الحكومة كأنها بحاجة إلى حشد رأي عام لكي تقوم بواجبها في حين لم تعترف يوماً بأنها فشلت في إخماد ظاهرة خطف الأجانب، وردت على انتقادات معارضيها بقوة اذ اتهمت أحزاب المعارضة التي حملت الحكومة مسؤولية تفشي ظاهرة خطف الأجانب، بأنها تحاول ابتزازها وتحقيق أغراض تندرج في قاموس المزايده السياسية وپ"التلفيق الرخيص". وفي هذا السياق كان لافتاً وجود العقيد الركن يحيى محمد عبدالله صالح أبن شقيق الرئيس صالح وهو رئيس أركان قوات الأمن في مقدمة تظاهرة نظمتها جمعية وكالات السياحة في اليمن وتوجهت إلى مبنى الحكومة تندد بحوادث الخطف وما تلحقه من خسائر مادية في قطاع السياحه سنوياً وإساءة لليمن أمام العالم... وطالب العقيد يحيى صالح الحكومة بتفعيل"قانون الاختطافات"الذي صدر عام 1998. ثقافة قبلية... ثمة أحزاب يمنية معارضة ومؤسسات في المجتمع المدني ومناهضون لسياسات الحكومة ترى في تفشي ظاهرة خطف الأجانب وتكرارها في المناطق النائية ذات الطابع القبلي، تأكيداً على قوة القبيلة وهيمنتها على الدولة من خلال تجنب الدخول في مواجهة مسلحة تتحول إلى نوع من الثأر بين الدولة من جهة، والقبائل من جهه أخرى. وتعتبر هذه الأوساط لجوء الحكومة إلى الوسطاء لمساومة الخاطفين وقبائلهم خارج إطار القانون، تأكيداً على هذه الهيمنة ما يعني إضعاف هيبة الدولة ونفوذها وتغييب القانون. غير أن أبناء القبائل ومشايخها ووجهائها ممن التقتهم"الحياة"في محافظاتمأرب، شبوه، الجوف، صنعاء، أبين وصعده، يرفضون إلصاق ظاهرة خطف الأجانب بثقافة القبيلة ويؤكدون أن تقاليد القبائل اليمنية وأعرافها لا تجيز بأي حال من الأحوال لجوء أبنائها لهكذا وسائل في الضغط على الحكومة او المطالبة بحقوق مشروعة أو مهدورة. ويستشهد رجال القبائل بالأدوار الوطنية للقبائل اليمنية في مراحل التحرر الوطني من الاستعمار في جنوب اليمن والحكم الأمامي في شماله وبناء الدولة اليمنية وتحقيق الوحده وانخراط أبناء القبائل في التعليم والوظائف العامة والجيش والأمن والجامعات والأحزاب السياسية ومناهضة القبائل للتطرف والظواهر السلبية في المجتمع بالإضافة إلى رصيدها الوطني في التحولات التي شهدها اليمن في تاريخه القديم والمعاصر. غير أن رجال القبائل الذين التقتهم"الحياة"يتهمون الحكومة بإهمال"متعمد"لمناطقهم وحرمانها من مشاريع الخدمات والوظائف والتعليم ومحاولة عزلها عن العصر وإجبارها على البقاء تحت خط الفقر وإلصاق تهم ممارسة العنف والإرهاب بها. ويؤكد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر شيخ مشايخ قبيلة حاشد ورئيس مجلس النواب اليمني، أن ظاهرة خطف الأجانب في اليمن تناقض تقاليد وأخلاق القبيلة والمجتمع بأسره وتسيء للبلد. ويحمّل الحكومة مسؤولية تفشي الظاهرة وتحويلها الى وسيلة ابتزاز يمارسها"الخاطفون"للضغط على الدولة وتحقيق مطالب شخصية شبيهة بالفدية مقابل إطلاق الرهائن بسلام. ويصف الأحمر الخاطفين بأنهم"مرتزقة ومجرمون خارجون عن القانون وعن القبيلة وعن الأخلاق والقيم التي يتحلى بها أبناء اليمن". ويطالب الدكتور محمد الظاهري رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة صنعاء الحكومة بحل قضايا الاختطاف سلمياً، ومحاورة الخاطفين وتلبية المطالب المشروعة للقبائل"لأن للقبائل شروطاً يفترض أن تدرسها الحكومة وتحقق المنطقي والمعقول والضروري منها". ويضيف الظاهري أن عملية الاختطاف"مرتبطة بآليات تعبير القبائل عن مطالبها انطلاقاً من ثقافة الشك السائدة بين بعض القبائل نحو الحكومة والعكس، وللأسف تتعامل القبائل مع الحكومة كخصم". ويشدد على ضرورة تفعيل سيادة القانون وإصلاح القضاء والقضاء على الفساد والتحاور مع القبائل، مشيراً إلى وجود موقفين في العرف القبلي من ظاهرة الخطف الأول يرفضها ويعتبرها تصرفات خارجه عن أخلاق القبيلة والثاني يرى أن من حق القبائل القيام بعمليات الخطف لتحقيق مطالبها. وكان رئيس الوزراء اليمني عبدالقادر باجمال دعا القبائل والعشائر اليمنية الى التعبير عن رفضها القاطع لظاهرة خطف الأجانب من خلال ممارستها للتقاليد والعادات القبلية ذات الأخلاق والقيم الرفيعة في مقاطعة تلك الفئات الخاطفين. وفيما أكد باجمال على خلفية سلسلة الاختطافات التي استهدفت سياحاً أجانب في اليمن أخيراً أن الدولة ستضرب بيد من حديد ولن تتهاون مع الخاطفين ولن تساومهم، سادت الأوساط اليمنية خيبة أمل عندما بدأت محكمة خاصة بجرائم الإرهاب وأمن الدولة أولى جلساتها يوم الأربعاء 19 كانون الثاني يناير الماضي محاكمة خاطفي السياح الإيطاليين في مأرب في حين لا يزال مرتكبو ثلاث عمليات أخرى في شبوه ومأرب طلقاء، وسط أنباء تتحدث عن صفقة عقدتها معهم الحكومة.