صدر أخيراً التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2005، ضمن سلسلة أعداده التي واصل إصدارها عاماً تلو الآخر منذ عام 1980. وكان في بدايته ثمرة للتعاون بين صندوق النقد العربي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، ثم انضمت الى هذا الجهد المشترك الأمانة العامة لجامعة الدول العربية منذ العدد الثاني، كما انضمت منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول منذ العدد الثالث. ويعتبر هذا التقرير في وقتنا الحالي من أهم المصادر العربية لما يوفر من قاعدة مهمة من البيانات والمعلومات عن التطورات السنوية للاقتصادات العربية، يقدمها بصورة علمية وموضوعية دقيقة، تفيد المسؤولين والباحثين المهتمين بالشؤون الاقتصادية العربية. ويتسم التقرير بتعدد موضوعاته، إذ تشمل أعداده المتعاقبة على كل ما يتصل بالاقتصادات العربية من تطورات سنوية. وما يعنينا في هذا المقال إعطاء لمحة موجزة عن التطورات الاقتصادية التي شملها عدد التقرير لعام 2005. ويتصدرها تطورات الاقتصاد الكلي ومفادها استمرار تحسن أداء الاقتصادات العربية، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية كمجموعة من 751 بليون دولار عام 2003 إلى 870 بليون دولار عام 2004، محققاً بذلك معدلاً مرتفعاً للنمو بالأسعار الجارية ? في ضوء ارتفاع الأسعار العالمية للنفط وإنتاجه ? بلغ 15.8 في المئة، مع ضرورة التنويه بأن هذا المعدل يقدر بالأسعار الثابتة بنحو 6.7 في المئة. وتزامن هذا التحسن مع بقاء معدلات التضخم عند مستويات معتدلة في ضوء ما شهدته اقتصادات الدول العربية من توسع في النشاط الاقتصادي، مما يعكس سلامة السياسات المالية والنقدية المتبعة للسيطرة على الضغوط التضخمية الداخلية والخارجية. ومن الدلالات الإيجابية للتطورات المالية في هذا الشأن، تحقيق الموازنات الحكومية في الدول العربية مجتمعة تحسناً كبيراً في مؤشرات أداء المالية العامة. إذ تشير البيانات المتاحة في التقرير إلى أن إجمالي الإيرادات العامة والمنح في الدول العربية ارتفع إلى مستوى قياسي بلغ نحو 277 بليون دولار بنهاية عام 2004، هو الأعلى لإجمالي الإيرادات العامة والمنح على الإطلاق. ويعزى هذا في شكل أساسي إلى ارتفاع حصيلة الإيرادات النفطية، حيث بلغت نحو 180 بليون دولار، وشكلت نحو 65 في المئة من إجمالي الإيرادات العامة والمنح. وغني عن البيان أن التطورات النفطية المتمثلة بارتفاع الأسعار وزيادة الكميات المصدرة منه لمقابلة الطلب العالمي المتنامي قد عززت وضع موازين المدفوعات والاحتياطات لمجموع الدول العربية. إذ ارتفعت الفوائض المسجلة في الموازين التجارية، وانعكست هذه الفوائض مصحوبة بالزيادة المحدودة في عجز موازين الخدمات والدخل وتراجع العجز في صافي التحويلات الجارية في تحقيق موازين الحسابات الخارجية الجارية لأعلى فائض للدول العربية بمقياس الأسعار الجارية تم تسجيله خلال الفترات السابقة منذ عام 1981 ، إذ بلغ نحو 108 بلايين دولار . ويشير التقرير في هذا الجانب إلى أمرين مهمين: أولهما مواصلة تصاعد الاحتياطات الخارجية الرسمية لمجموع الدول العربية. إذ بلغت نحو 197 بليون دولار، بما يزيد نحو 126 في المئة على مستوياتها في عام 1999، وثانيهما، تراجع وتيرة نمو المديونية الخارجية العربية على رغم أنها بلغت بالأرقام المطلقة نحو 151 بليون دولار وكذلك تراجع نسبة الدين العام الخارجي للدول العربية المقترضة إلى الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول العربية من 45.6 في المئة عام 2003 إلى 42.1 في المئة عام 2004، إضافة إلى تراجع خدمة الدين العام الخارجي بنسبة 3 في المئة، حيث بلغت نحو 16.6 بليون دولار. وثمة أمثلة أخرى إيجابية في التقرير منها: تقلص العجز في الميزان التجاري الزراعي للدول العربية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الفاكهة والخضار والبيض والأسماك، وتحقيق التجارة الخارجية أداءً جيداً، حيث بلغت قيمة الصادرات العربية الإجمالية نحو 397 بليون دولار، ونمت بنسبة 30.4 في المئة في ضوء ارتفاع الأسعار العالمية للنفط وزيادة الدول العربية للكميات المصدرة منه. وعلى صعيد التجارة العربية البينية، ارتفعت قيمة الصادرات العربية البينية بنحو 36 في المئة، وبلغت نحو 35 بليون دولار، وشكلت حصتها نحو 8.7 في المئة من إجمالي الصادرات العربية. كما ارتفعت الواردات العربية البينية بنحو 37 في المئة وبلغت نحو 30 بليون دولار، أي نحو 12.2 في المئة من إجمالي الواردات العربية في عام 2004. من جانب آخر يشير التقرير إلى العون الإنمائي العربي، وتبين إحصاءاته المتاحة إلى أن المساعدات الإنمائية الميسرة المقدمة من الدول العربية المانحة في عام 2004، بلغت نحو 2.4 بليون دولار. وبذلك بلغ إجمالي ما قدمته الدول العربية من مساعدات إنمائية ميسرة خلال الفترة 1970-2004 نحو 124 بليون دولار، ساهمت فيها السعودية بنسبة 65.9 في المئة، والكويت بنسبة 15.4 في المئة، والإمارات بنسبة 10.3 في المئة، بينما ساهمت الدول العربية المانحة الأخرى بالباقي. كما بلغ إجمالي التزامات العمليات التمويلية لمؤسسات وصناديق التنمية العربية نحو 3.3 بليون دولار، بلغت مساهمة الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي فيها 31.7 في المئة، والبنك الإسلامي للتنمية 27.8 في المئة، والصندوق الكويتي 14.9 في المئة، وساهمت الصناديق الأخرى بالباقي . وبعيداً عن الصور الوردية للاقتصادات العربية والانعكاسات الإيجابية للفورة النفطية الحالية، ثمة دلالات سلبية كثيرة يشير إليها التقرير في كثير من أجزائه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما يتصل بالاقتصاد الكلي، حيث يتضح من تطوراته أن معدلات الادخار والاستثمار ما زالت خفيضة في غالبية الدول العربية، إذ تبلغ في المتوسط نحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمعدلات تتجاوز 30 في المئة في الدول النامية. كذلك يتضح أيضاً في هذا الشأن أنه على رغم ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي العام الذي سبق ذكره، فإن الدول العربية لم تتمكن بعد من مواجهة مشاكلها التنموية الأساسية، وبخاصة البطالة والفقر وتنويع مصادر الدخل، وزيادة القدرة على التصدير، وزيادة الإنتاجية، وتطوير التعليم والتدريب والبحث العلمي، مما يقلل من قدرة الدول العربية على اللحاق بركب الدول المتقدمة. وعموماً، قدر التقرير معدل البطالة في الدول العربية بنحو 15 في المئة من إجمالي قوة العمل، أي ما يعادل 18 مليون عاطل يبحثون عن العمل وقادرون عليه ولا يجدونه. كما بيّن في الوقت نفسه اتساع فجوة النوع الاجتماعي في المشاركة في قوة العمل، حيث تعتبر هذه الفجوة الأكبر في العالم. كما تعتبر حصة المرأة العربية في القوة العاملة الأدنى بين الأقاليم الرئيسية في العالم وتمثل حصتها نحو 29.9 في المئة من إجمالي القوة العاملة العربية. وتشير البيانات المتاحة في التقرير إلى جوانب سلبية أخرى في مجال العمالة تتمثل بارتفاع نسبة القوة العاملة ذات المستوى التعليمي المتواضع، وانتشار فئة الأميين في شريحة كبيرة من العاملين في عدد من الدول العربية التي توافرت عنها بيانات كاليمن والسودان وموريتانيا والسعودية ومصر. وعلى صعيد الأمية، يتضح من التقرير أن معدلها يبلغ نحو 39 في المئة من إجمالي السكان العرب البالغين 15 سنة فأكثر، أي نحو 74 مليون أمي، وأن الفجوة في معدلات الأمية بين الشباب من الجنسين لا تزال الأكبر بين الأقاليم الرئيسية في العالم. إن هذه الدلالات السلبية تثير الكثير من القلق، وتبين مدى الدور الكبير الذي يلعبه التقرير الاقتصادي العربي الموحد في تتشخيص التحديات التي تواجه الاقتصادات العربية، من خلال ما يثيره من تحليلات وتعليقات على جانب كبير من الأهمية، نأمل بأن تركز الدول العربية عليها عند وضعها لسياساتها الاقتصادية . والأمل كبير أيضاً بأن تقترب الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية في الدول العربية، من هذا التقرير، وتتصدى لما يتضمنه من معلومات وبيانات، وتعطيه اهتماماً بدرجة الاهتمام نفسها التي تعطيها لكثير من التقارير الدولية. خبير اقتصادي في المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط