لعقود خلت، بدا حيز تعايش الحضارات فسيحاً. وقضت الحكمة بالنصيحة"في روما، تصرف مثل الرومان". ولكن العولمة ألغت القاعدة هذه. وأدت الهجرة الجماعية الى امتزاج الشعوب والثقافات. ولم تعد روما تتمتع بخصوصية ثقافية، فامتزجت فيها ثقافة تونس والقاهرة، فيما راحت بيرمينغهام تكتنف كشمير والبنجاب في آن ولامس العالم بأسره لندن. وانتفى مفهوم الاطار المحلي، وصار كل شيء يشق طريقه الى الناس، فيما راحت الثقافات المتنافسة تنشر معاييرها في العالم: فيروّج جورج بوش للديموقراطية على النمط الغربي، والبابا بينيديكتوس السادس عشر للكاثوليكية، وعمر بكري للشريعة. فكيف العيش في هذا العالم الجديد؟ وكيف نبقى احراراً فيه؟ يبدو اقل الحلول سوءاً تسوية مؤلمة بين الحق في التعبير هواء الحريات وبين الحاجة الى رقابة ذاتية في عالم مختلط الى هذه الدرجة. والعنف، أو التهديد المباشر بالعنف - على ما رأينا على المصلقات التي حملها معترضون في لندن وكتب عليها"فلتقطع رؤوس هؤلاء الذين يهينون الاسلام"- ليسا سائغين من الناحية الاخلاقية. وتؤولان الى المقاضاة الجزائية. وعليه، فإدانة أبو حمزة المصري بالتحريض على القتل مفهومة، وأما الرسوم الدنماركية فهي بمنزلة إهانة. ولم أرَ صواباً نشرها في بعض الصحف الاوروبية. ولكنها ليست تهديداً لجماعة بعينها، أو افراد بعينهم. ولنترك العبارات المتهاوية عن"عنف بنيوي"و"تسامح قمعي". والعنف أمر غير مبرر وقد يؤدي الى القتل، الا انه كان فعالاً ربما. والحق ان الرقابة الذاتية التي اظهرتها الصحافة البريطانية تدعو الى القول انها كانت مسؤولة، وبراغماتية، وراعية لتعدد الثقافات. وقد يقول المرء انها خافت احراق مكاتبها. فهل امتزجت الحكمة بالخوف، أم تزيا الخوف بالحكمة؟ وعليه، يبقى السؤال: كيف الجمع بين حرية التعبير والاحترام المتبادل في هذا العالم المختلط؟ فليس وارداً الاخذ بقانون العين بالعين والسن بالسن والتهديد بالتهديد". فيتهددنا اذ ذاك، ابتداء حلقة عنف مع المتطرفين الاسلاميين. ويستفز هؤلاء، بدورهم، المتطرفين المناهضين للاسلام مثل نيك غريفين من الحزب الوطني البريطاني، وكم كنت اتمنى لو دين قبل ايام من ادانة ابو حمزة. فيؤدي خطابهم العنيف الى مساندة المسلمين المعتدلين الجهاديين. وهكذا دواليك. وأرى ان وسائل الاعلام البريطانية أحسنت التصرف حين اتاحت للمتطرفين الاسلاميين الادلاء بآرائهم على الاشهاد ومناظرة الاصوات المسلمة، المعتدلة والعقلانية، هذه الآراء والرد عليها، نشرها اصحاب الرأي من غير المسلمين. فجرت مناقشة هادئة على قناة"نيوزنايت"طرفاها امرأتان مع المتطرف انجيم شوداري من جماعة"الغرباء". فكانت منبراً حضارياً ناقش منه مسلمون اخوانهم المسلمين. والحق ان معظم المسلمين البريطانيين لا يرون رأي الجهاديين، ولكنهم لا يوافقون رسامي الرسوم الدانمركية الرأي كذلك. ولعل الاستدراج الذي يستدرج اليه كثيرون، هو اعتبار الامر مواجهة بين الاسلام وأوروبا أو الغرب على رغم ان اميركا ليست في مقدمة الجبهة. وهذا ما يريده المتطرفون. وآية ذلك الملصقات التي حملوها خارج مبنى السفارة الدنماركية في لندن:"أوروبا هي السرطان والاسلام هو العلاج". وهذه ليست حرباً ولن يربحها الغرب، ولن يخسرها. فهي ليست حربه، بل هي حرب داخل الجاليات وفي صفوفها، وتالياً هي حرب داخل اوروبا، حيث يعيش ملايين المسلمين. واذا ما انتصر المنطق على الكراهية، فذلك لأن البريطانيين، والفرنسيين والالمان والاسبان والايطاليين والدانماركيين، ومسلمي اوروبا، انتصروا على الاقليات المتطرفة داخلهم. ونحن، الاوروبيين غير المسلمين، في مقدورنا ان نسهم في ذلك، إما من طريق سياساتنا الخارجية، تجاه العراق وايران واسرائيل وفلسطين، وسياستنا الداخلية في مسائل الهجرة والتعليم والتوظيف وغيرها. ولكننا لا يسعنا قبول تسويات على الاركان الاساسية لمجتمع حر. ولعل عقد حلقات حوار بين المسلمين الاوربيين، ومناظرة بعضهم بعضاً، على ما فعل الاعلام البريطاني هذا الاسبوع، احد احسن الردود على البغض. عن تيموثي غارتون آش،"غارديان"البريطانية، 9/2/2006