شهدت الأيام القليلة الماضية سلسلة عمليات عنف كانت أبرزها عملية لندن التي أودت بحياة 52 شخصاً وجرح 700. واعتبرت الصحف العربية أن هذه العملية التي انتظرت حكومة توني بلير وقوعها منذ 11 أيلول سبتمبر 2001، لا تعكس من حيث البشاعة حجم العمليات اليومية في العراق. ففي صباح يوم الأحد الماضي، دخل أربعة مسلحين الى منزل حسين طارش في بغداد، وأطلقوا النار على تسعة أشخاص نيام فقتلوا الوالدة وثمانية من أبنائها أصغرهم لا يزيد عمره على سنتين. وسارع صاحب الدار الى اتهام عشيرة الدليم السنّية، في حين أعلنت جماعة"أبو مصعب الزرقاوي"أنها هي التي أمرت بتنفيذ عملية الاغتيال الجماعي. وذكرت في إعلان لاحق أنها نفذت حكم الإعدام أيضاً بالسفير المصري في بغداد ايهاب الشريف، لأن الرئيس حسني مبارك اعترف بالنظام العميل وأعطى شرعية للاحتلال الأميركي! ومع أن الدولة البريطانية تحاول إلغاء كل علاقة سببية بين حربها في العراق والحرب الدائرة ضد المنظمات الأصولية داخل المدن الغربية، إلا أن أدلة منفذي تفجيرات لندن الأخيرة أكدت وجود رباط وثيق بين الحالتين. كما أكدت بالتالي أن النزاع العنصري قد يفرض نفسه على الشارع البريطاني، خصوصاً بعد مقتل الباكستاني كامل رضا بوت الذي تعرض للضرب المبرح على أيدي شبان بيض. وهذا ما استدعى اظهار التنديد والشجب من جانب زعماء الطوائف الدينية الخمس الكبرى الذين أصدروا إعلاناً مشتركاً يعبرون فيه عن التزامهم المشترك القضاء على الإرهاب. وطالب الشيخ زكي بدوي، رئيس مجلس مساجد وأئمة بريطانيا، الجالية المسلمة بضرورة محاكاة الطوائف الأخرى في عملية الانصهار والتكيّف مع قوانين المجتمع الذي يعاملهم كمواطنين لهم كامل الحقوق وعليهم كامل الواجبات. وصدف في هذا الوقت وجود وزير المال الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في لندن للاشتراك في مؤتمر دولي يتعلق بمستقبل إيران النووي. واستغل نتانياهو أحداث التفجير ليطل من شاشات التلفزيون ويطرح الحلول بطريقة تنسجم مع التوصيات الأمنية التي نفذتها حكومته بين 1996 و1999 ضد المنظمات الأصولية مثل"الجهاد الإسلامي"و"حماس"و"حزب الله". وادعى في أحاديثه أن العناصر التي ضربت في نيويوركوواشنطن ومدريد ولندن لم تفعل ذلك رداً على الموقف السياسي الذي تقفه الإدارات الأميركية من إسرائيل، أو بسبب اشتراك القوات البريطانية والاسبانية في حرب العراق،"بل من أجل تدمير نظام الحياة والحرية في العالم الغربي، ومن أجل تغيير نمط حياتنا وأسلوب تفكيرنا". وزعم نتانياهو أن"مركز مكافحة الإرهاب"الذي أسسه في واشنطن باسم شقيقه الضابط الذي قتل في عملية عنتيبي، هو أفضل سلاح لدحر الجماعات المتعصبة المتطرفة التي تربك الأمن والسلامة في العالم الغربي. وكان بهذا التوجيه يناقض خطاب توني بلير الذي تحدث عن الإسلام بنظرة ايجابية، فوصفه بأنه دين سلام وتسامح، كما وصف الجالية الإسلامية بأنها تمارس واجباتها الوطنية وعقيدتها الإسلامية بعقلانية وتفهم. وقال إن في بريطانيا أكثر من مليون وستمئة ألف مسلم يتساوون في الارتباط المعنوي بين السياسي والديني. ولقد أيده الأمير تشارلز في هذا الوصف، مؤكداً أن أثمن ما جاء به الإسلام يكمن في عظمة تجربته الروحانية التي يشهد عليها شعراؤه ومفكروه. ودعا المسلمين البريطانيين الى التحلي بروح التسامح، مذكراً أن هذا الدين يحرم العنف وقتل الأبرياء. ولاحظ المعلقون أن الكلمة التي ارتجلها توني بلير في هذه المناسبة، خففت من وقع حملة التحريض التي شنها اليمين البريطاني المتطرف. ولقد افتتح هذه الحملة"الحزب الوطني البريطاني"بخطاب عنصري دعا فيه الى استخدام سياسة التهجير ضد الذين يرفضون الانتماء الى هذا المجتمع. وطالب الحكومة بتنقية البلاد من"الغرباء"الذين استوردوا ثقافة غريبة عن ثقافة الشعب البريطاني. وهذا ما دعا إليه أيضاً قادة"الجبهة الوطنية"التي تتكون عناصرها من العمال وأصحاب المهن الصغيرة ممن يخشون منافسة الآسيويين والأفارقة. كذلك أحيت عملية التفجير المنظمات اليمينية النائمة مثل"كومبات 18"التي تؤمن بترحيل اللاجئين بالقوة، أو مثل جمعية"الفارس الأبيض"التي تستخدم شعار"سان دييغو"الذي قاتل مسلمي اسبانيا المور وطردهم منها. ومع أن تأثير حملات هذه الجمعيات كان محدوداً، إلا أن تقارير الصحف عن وجود 16 ألف ارهابياً ومناصراً ل"القاعدة"في بريطانيا، شجعت المتطرفين على مهاجمة بعض المساجد في لندن وليدز وبيركينهد وميرتون. ولكن الرأي العام ظل محتفظاً بهدوئه وتحفظه تجاه دعوات التحريض، أو تجاه أنصار تنظيم"القاعدة"الذي أعلن فيه عبر الانترنت المسؤولية عن عمليات السابع من تموز يوليو اللندنية. وجاء في بيان التنظيم ما خلاصته:"إن الأمة الإسلامية فرحت واغتبطت لأن الوقت قد حان للانتقام من حكومات الصهاينة والصليبيين". ولكن كبار قادة الشرطة رفضوا المنطق الذي يربط الإسلام بالإرهاب، وتعاملوا مع الحادث كما كانوا يتعاملون مع واضعي المتفجرات من جيش المقاومة الايرلندي. وانتصر الى هذا الخط عدد من زعماء"حزب العمال"مثل ديفيد كلارك الذي أعلن في الصحف أن"الانتصار في الحرب ضد الإرهاب لن يتحقق إلا إذا تعاملنا مع ضائقة العرب بصورة جدية، وإلا إذا تعاطينا مع حقوق الفلسطينيين بصورة منصفة". وذهب كاتب مسلم هو فاوست بوني، في تبرير عملية التفجير الى القول:"إنها نتيجة الغضب الذي اثاره قرار بلير الانضمام الى بوش في حربه ضد العراق... هذا القرار الخاطئ وضع بريطانيا كلها على خط النار". وكان من المتوقع أن يتصدى لهذا التحليل ابراهام هالفي، رئيس المجلس الأعلى السابق للاستخبارات الإسرائيلية، ويفسر عمليات الإرهاب التي يشنها اسامة بن لادن وأنصاره، بأنها تمثل حرباً عالمية لا تقتصر أهدافها على قلب الأنظمة أو احتلال الأرض، وإنما ترمي الى تدمير الحضارة الغربية. وقال هالفي، الذي يزور لندن تلبية لدعوة رسمية بصفته خبيراً في موضوع الإرهاب، إن"القاعدة"طورت وسائلها الهجومية منذ سنة 1998، أي منذ جرى نسف سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام واعتداء 11 ايلول سبتمبر 2001. وعليه طالب هالفي بضرورة تحديث وسائل قمع الإرهاب لدى 23 دولة صنفها بن لادن بأنها تستحق الموت. وأيده في هذا المنحى رئيس حزب المحافظين مايكل هوارد الذي رفض أن يربط أسباب العملية الإرهابية الأخيرة بمشاركة بريطانيا في حرب العراق، مؤكداً أن أحداث 11 أيلول وقعت قبل الحرب. وحول هذه النقطة بالذات اختلف مع توني بلير الذي قال في مقابلة مع ال"بي بي سي": انه من المفيد معالجة جذور الارهاب العميقة التي نمت في مناخات الفقر ونزاع الشرق الأوسط". الحكومة الاسرائيلية انتقدت تحليل بلير واعتبرته تفسيراً مبسطاً، وتبريراً لأمور لا تدخل في حسابات"القاعدة"وطموحاتها السياسية والدينية. لذلك كلفت الخبير سيفر بلوتسكر اصدار جواب على توني بلير جاء في خلاصته: أولاً، هذا الارهاب يرتكبه متعصبون اسلاميون يؤمنون بالحاجة الى شن جهاد شامل ضد الكفار واليهود والصليبيين والمسلمين المعتدلين. ثانياً، هذا ارهاب الاثرياء المتعلمين وليس ارهاب الفقراء والجهلة، كما يقول بلير، والدليل على ذلك ان الذين نفذوا عمليات نيويورك ومدريد ولندن هم اشخاص ميسورون يتقنون اللغات والمهارات التكنولوجية، مثلهم مثل جماعة"حماس"و"حزب الله". ومعنى هذا ان العلاقة معدومة بين الحرب ضد الفقر والحرب ضد الارهاب. ثالثاً، الجهاديون من أمثال بن لادن والظواهري والزرقاوي لم يشنوا حربهم ضد الغرب في سبيل حل النزاع العربي الاسرائيلي، أو في سبيل دفع الولاياتالمتحدةوبريطانيا للانسحاب من العراق، أو إجبار اسرائيل على سحب قواتها الى الخط الأخضر. هؤلاء يريدون انشاء نظام عالمي جديد على انقاض النظام الحضاري الغربي القائم. وكل صفح أو تبرير لأعمالهم يقود الى الهبوط فوق المنحدر الذي حذر منه ونستون تشرشل سنة 1940 عندما رفض التفاوض مع هتلر. على هذا الكلام رد وزير الخارجية البريطاني السابق روبين كوك في مقالة نشرتها صحيفة"ذي غارديان"جاء فيها:"ان المتنورين الغربيين تجاهلوا أعمال الارهاب التي ارتكبت ضد مسلمي الصرب حيث تم القضاء على ثمانية آلاف مسلم. وان المتنورين في الغرب يتجنبون الحديث عن تركيا وامكان انضمامها الى أوروبا. يجب إضافة وسائل أخرى في الحرب ضد الارهاب، وسائل عملية مجدية ومشاركة تقوم على التحالف وليس على عداء الحضارات". الكاتب في صحيفة"معاريف"ابراهام تيروش، رفض تفسير الخبير الاسرائيلي بلوتسكر بأن الارهاب لا ينمو إلا داخل المجتمعات الاسلامية المتطرفة. ونشر مقالة تحت عنوان"يجب اقتلاع أفكار التيار الديني الصهيوني"يقول فيها:"إن قاتل رابين يغئال عمير يعتبر نتاج الفكر المنغلق الذي يبثه حاخامون يعتقدون بأن القتل باسم"يهوه"هو عمل غير مخالف لمشيئة السماء. ان التربية التي غُرست في قلوب الشبان والجنود هي تربية مشينة أفسدت نظام القيم ومنعت شرعية التسامح والانفتاح والخلاف في الرأي. والمؤسف ان زعماء المستوطنات يشجعون أبناءهم على ارتكاب جرائم العنف ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض المصادرة!". يجمع المراقبون على القول ان اكتشاف الارهابيين الأربعة عزز مكانة توني بلير ودعم موقفه السياسي داخلياً وخارجياً. وذكرت الصحف ان سكوتلنديارد رصدت مكالمة هاتفية لوالدة أحد منفذي العملية، الأمر الذي فتح المجال لاكتشاف أعضاء الخلية. ولكن هذا الاعلان لم يرفع السرية عن اللغز الحقيقي الذي قاد اجهزة الاستخبارات الى تحديد هوية المتورطين ومكان اقامتهم. ويزعم أحد شيوخ مسجد"فينزبري"ان الحكومة البريطانية حصدت نتائج التساهل الذي أظهرته نحو"أبو قتادة"ومحمد الكربوزي و"أبو حمزة المصري"وعدد كبير من معارضي الأنظمة في مصر والسعودية والأردن. وهو يفسر هذا التساهل بأنه جزء من الاختراق الاستخباراتي، بهدف مراقبة نشاطاتهم واتصالاتهم، أو تجنيد بعضهم للتجسس على البعض الآخر. ولقد نجحت هذه الخطة في تعطيل ست عمليات سابقة. ويقول وزير الداخلية تشارلز كلارك، ان الفرصة اصبحت مواتية لتثبيت القانون الذي يسمح للحكومة بفرض مراقبة قاسية على ارهابيين مشتبه بهم مثل الإقامة الجبرية والتنصت الالكتروني، وعدم التجول بحرية. وربما يحاول منع أكثر من اربعين معارضاً عربياً لجأوا الى بريطانيا من الإدلاء بتصاريح سياسية تحت وطأة التهديد بتسليمهم الى بلدانهم. ويتوقع نواب الحزب الحاكم ان يصار الى سن تشريعات جديدة تتعلق بمنع"الارهابيين"من الدخول الى بريطانيا، وذلك بالتنسيق مع فرنساواسبانيا وايطاليا وسويسرا وهولندا. إضافة الى هذه التدابير المقترحة، فإن وزارة الدفاع البريطانية طالبت بتغيير وسائل مكافحة الارهاب، واستبدال الأسلحة التقليدية بأسلحة دقيقة وحساسة. ويقول خبراء الأمن ان طائرات"اف - 22"والدبابات والبوارج لم تنجح في وقف زحف الارهاب الذي نفذ عمليات بالي ونيروبي ودار السلام ونيويورك والدار البيضاء والخبر ومدريد ولندن، من هنا رفعت وزارة الداخلية شعار"العقل بدل العضل". وهذا يستدعي بالضرورة الاعتماد على اجهزة الكترونية متصلة بالأقمار الاصطناعية لرصد تحركات كل ارهابي محتمل وكل واعظ متشدد وكل لاجئ معارض. على هامش أحداث العنف التي تنفذها عناصر"القاعدة"في الدول الغربية، يتساءل خبراء الأمن الدولي عما إذا كانت عمليات الاغتيال في لبنان مرتبطة بمشروع"جند الشام"، أم هي منفصلة عنه. وتقول معلومات نشرها كاتب أردني سمحت له الفرصة باختراق خلية تابعة ل"القاعدة"ان فكرة انشاء"جند الشام"ولدت في افغانستان، وان معتمدي التنفيذ توزعوا في العراق وسورية ولبنانوالأردن. والمؤسف ان ملفات الأمن اللبناني لا تملك اي خيط يقود الى هذا التنظيم السري الذي تدرب مدة طويلة على القتال في جرود الضنية وحاول مرة نسف حافلة تقل عشرين مطراناً، بعدما اشتبك مع الجيش اللبناني وأردى عدداً كبيراً من عناصره. وتشير المعلومات الى ان"جند الشام"انقسموا الى فرق متعددة بهدف التمويه والتضليل، وان تنظيم"قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"الذي تسلل الى الأردن، ليس سوى فرع من"طواحين العدوان"في سورية! كاتب وصحافي لبناني.