يبدو أن بعض مفكري الغرب وصانعي سياساته يعيش جولة أخرى من جولات الاستشراق، إذ عادت إلى الواجهة كتابات وسير وأحكام قاطعة أو شبه قاطعة عن دول الشرق والجنوب. يشترك في هذه الجولة"مستشرقون جدد"بينهم أكاديميون وإعلاميون بعضهم من أصول عربية وسياسيون وعقائديون أصوليون. واستطاع هذا النفر من المستشرقين الجدد النفاذ إلى مواقع نفوذ في عواصم غربية، أي إلى مواقع القيادة الديبلوماسية والعسكرية، وخصوصًا في الولاياتالمتحدة. في الوقت نفسه يعيش بعض مفكري العرب، والشرق عموماً، هو الآخر جولة جديدة من جولات"الاستغراب"ويتصدر العمل في الشؤون الثقافية وفي السياسة الخارجية والديبلوماسية والإعلام. يمثل هذا البعض نخبة روّعتها أو أذهلتها الهيمنة الثانية للاستشراق، فانغمس فريق منها يبحث عن مبررات للمستشرقين الجدد والاستشراق الجديد، ويبحث في الوقت نفسه عن مخارج مما تصوره مآزق"حضارية"ووجد ضالته في نداء التداعي إلى"حوار الحضارات". واللافت، خصوصًا بعد سنوات من حلقات متصلة أو منفصلة في سلسلة ما أطلق عليه حوار الحضارات، أن العرب كانوا الطرف الذي ظل يستعجل الحوار أحياناً بإعداد مسبق، وكثيراً من دون إعداد. وظن الناس أن الحوار سيثمر، أما ماذا يثمر ومتى، فلا أحد كان يعرف. ثم بدأت تتضح أمور لم تكن في الحسبان. اتضح أن الآخر ليس هندياً ولا صينياً ولا يابانياً ولا أميركياً لاتينياً. الآخر هو الغرب ولا شيء غير الغرب. اتضح كذلك أن قواعد الحوار يحددها الغرب، ويختار له من الظروف والموضوعات ما يخدم مصالحه أهدافه، وهي نفسها أهدافه من الصدام الذي أطلق فكرته ونفذها، ومن الحوار الذي قرر كيف ومتى يجري. اتضح أيضاً أن غالبية مؤتمرات الحوار اختارت لغات الغرب ليجري بها الحوار، وقليل جداً من المؤتمرات التي عقدت جرى الحوار فيها باللغة العربية أو لغات الشرق الأخرى، فهذه على كل حال لا يجيدها المحترفون من المستشرقين الجدد، سواء كانوا من أصول عربية أو غربية ولا الهواة منهم والدخلاء. ولا يخفى أن كثيراً من توصيات ونتائج المؤتمرات التي عقدت تحت عنوان حوار الحضارات صاغها غربيون حسب الدوافع والمصالح السياسية والأمنية الغربية، وليس من أجل فهم أفضل كما يتصور الناس الذين لا يشاركون في الحوار. وفي كثير من الحالات كانت نتائج الحوار تعلن قبل بدء الحوار كأن يبدأ الحوار بتوصية معينة مثل الحاجة إلى تطوير مناهج التعليم الديني، أو إغلاق المدارس الدينية، أو منع صدور فتاوى بعينها، أو تغيير مؤسسات وتقاليد، أو تمكين المرأة. نجد دائماً بيننا من يتفهم هذا الأمر. فحوار الحضارات انطلق، ولا يزال يجري على خلفية أعمال إرهابية ضد مصالح غربية متهمة بتدبيرها وتنفيذها جماعات أو منظمات"دينية"إسلامية. وبسبب ذلك لم يكن هدف هذا الحوار كغيره من الحوارات، الوصول إلى فهم أفضل ومتبادل، بل كان بغرض تأمين دول الغرب ومجتمعاته ومصالحها السياسية، أو بغرض الانتقام من جماعات ودول وثقافات بعينها، أو ربما بغرض أبعد من كل هذه الأغراض مثل تطويع العقل الإسلامي والعربي ليصبح أكثر استعداداً للتأقلم مع الثقافة الأميركية- الغربية، أي مع"الثقافة الكونية"، أو لكل هذه الأغراض مجتمعة. لذلك، اتسم الحوار خلال هذه السنوات الأخيرة بصفة الاستعجال، لكنه اتسم بما هو أخطر، أي بالانتقائية في اختيار كثير من المتحاورين. وجاءت إلى ساحات الحوار عناصر غير مؤهلة دينياً وعناصر سياسية أحاطت الحوار بضجة إعلامية وضغوط سياسية، وقامت جميعها بعملية خلط واضح - وأحياناً متعمد - بين الدين والسياسة والأمن، حتى بات أمراً مألوفاً منظر رجل دين يتحدث في قضايا الأمن وهو ليس بخبير في شؤونه، ورجل سياسة يتحدث في أصوليات دين وتراث وتقاليد وهو لا يعرف عنها إلا القليل أو السطحي. وصار عادياً في مؤتمرات الحوار منظر مشاركين يمثلون أجهزة استخبارات ومباحث لا ترى في الدين أو الثقافة الدينية أو التقاليد، وبخاصة الإسلامية، إلا منابع تطرف لا بد من تجفيفها. وفي حوارات بين أطراف يتحاورون في غير تخصصاتهم، اتسعت فرص ومجالات الوقوع في أخطاء كانت عواقبها خطيرة. إذ يتعمد بعض المحاورين في هذه الحوارات إطلاق صفة الصدامات الحضارية على نزاعات إثنية أو قومية وأحياناً على خلافات حدودية واقتصادية. لقد أعيدت تسمية كثير من نزاعات العقود الأخيرة بسبب جهل بعض المتحاورين أو انتهازيته فصارت صدامات حضارية، بينما نعرف جيداً ويعرف المتحاورون من الغرب وأقرانهم من الشرق أن معظمها نشأ كمخلفات استعمارية وإمبريالية كما في النزاع حول تيمور الشرقية وحرب الشيشان وغيرها من حروب القوقاز والصراع الناشب منذ قرون بين أهل فلسطين والغزاة. وعلى الجانب الآخر، لم يعد خافياً أن قيادات عربية وإسلامية تستخدم قائمة نزاعات طرف فيها عربي أو إسلامي لتعبئ الناس حول زعم"الأمة تحت الحصار"، حين تكون لها مصالح"سياسية"وراء إشاعة استهداف الأمة، تماماً كما أن للرئيس جورج بوش مصالح سياسية وراء قوله، وهو الأشهر بين كل أقواله، أن قوى إسلامية تسعى لإقامة إمبراطورية تمتد من إندونيسيا شرقاً إلى إسبانيا غرباً. إن عبارة"الأمة تحت الحصار"وكذلك عبارة كيان إسلامي إمبراطوري يمتد من إندونيسيا إلى إسبانيا، كلاهما يصطنع صداماً، أو يسعى إليه، يخلط ما هو ديني أو مقدس بما هو سياسي أو أيديولوجي أو إمبريالي. والمثير، كما نرى الآن، أن الديموقراطية أصبحت بنداً دائماً في أجندة صدام الحضارات أو حوارها، بل لعله البند الأثير عند بعض المتحاورين من الغرب، جعلها سبباً أو مبرراً كافياً لنشوب صدام بين ما يسمى بالحضارة الغربية والحضارة الإسلامية واثقاً من أن الجانب العربي والإسلامي ليس لديه ما يقدمه على هذا الصعيد إلا التنازلات على أصعدة أخرى. فإذا أضفت إلى هذه الحقيقة سخونة الوضع السياسي في الساحة العربية والإسلامية لفهمت كيف استحوذ المحاور الغربي على رصيد هائل يساوم به أطراف الحوار العربية للحصول على تنازلات في مواقف ومصالح أخرى. كذلك أشعر، وأنا أتابع مؤتمرات حوار، أن الصداميين الغربيين نجحوا حتى جعلوا الديموقراطية شرطاً أكثر منه موضوعاً للحوار. وعلى خلاف تعامل ديبلوماسية الغرب، وخصوصًا ديبلوماسية الولاياتالمتحدة، مع دول تنتمي إلى حضارات أخرى، يجري التعامل مع دول تنتمي إلى الحضارة العربية والإسلامية على قاعدة أن الدين مسؤول عن"العجز في الديموقراطية"، فالدين في الصين أو في أميركا اللاتينية أو في أفريقيا غير مسؤول عن العجز في الديموقراطية، وفي كل هذه المجتمعات لا ينشغل رجال الدين أو فقهاؤه أو السياسيون الدخيلون على حوارات الدين بمحاولات مستميتة كتلك التي يقوم بها المحاورون العرب والمسلمون لإقناع محاور أميركي أو غربي غير مكلف أصلاً بالفهم أو التفهم، بأن الدين ليس السبب في التخلف الديمقراطي عند العرب والمسلمين. وفي كل المرات كان الحوار، ولا يزال، يجري بين من تختارهم السلطة السياسية من ممثلي النخب المثقفة على جانبي الحوار، وفي الغالب الأعم يجري بين تلاميذ الاستشراق الجديد من جهة، وتلاميذ الاستغراب الجديد من جهة أخرى. ولكن هناك على مسافة بعيدة توجد ثقافة شعبية، وأحياناً يكون لها مثقفوها. يستند بعض هؤلاء إلى نصوص مقدسة أو تراث موغل في القدم أو مشاعر حنين إلى الماضي أو إلى ماضي بعينه. وفي الأكثر يعبرون في خطابهم السياسي عن شعور جارف لدى بعض السكان بظلم بين لحق بالشعب على أيدي قوى وأفكار وعقائد خارجية أو على أيدي استبداد داخلي وفجوات طبقية واسعة وبطالة وخيبات أمل ونكسات متلاحقة. هؤلاء لا يشاركون في حوار الحضارات، وموضوعاتهم ليست من بنوده. وكما أن الأصل في قصة الصدام الحضاري فكرة سياسية ومفكر سياسي وأهداف سياسية وأيديولوجية"توسعية أو إمبريالية". فالأصل أيضاً في حوار الحضارات فكرة سياسية ومسؤولون سياسيون وأهداف سياسية. وما الحضاري أو الثقافي أو الديني إلا حجاب لستر السياسة. ولذلك فإن إقبالنا المتهافت على إقامة حوارات حضارية تنتهي في الغالب بشروخ في المنظومات الأخلاقية والقيمية نتيجة جهود"التطويع الخارجي"لمؤسسات ومناهج وطرق حياة. لا أدعو إلى وقف الحوار. فليستمر بشرط أن نستأنف سياسات خارجية وديبلوماسية نشطة، حيث وجدت من قبل، أو أن نضع سياسات خارجية خلاقة وننشئ ديبلوماسيات مبدعة، حيث لم توجد من قبل، شريطة أن نركز في مناقشاتنا مع الآخر، أي مع العالم الخارجي بأسره، على الجوانب والخلافات السياسية في العلاقات بين الدول والمجتمعات بهدف منع تصعيد هذه الخلافات باستخدام مسميات سيئة السمعة مثل صدام الحضارات والثقافات والأديان. وبشرط ثالث، وهو أن يتوقف المحاورون من الجانب العربي والإسلامي عن صيغ الاعتذار ويتخلصون من عقدة الذنب التي تشل حريتهم في الحوار وإرادة حكوماتهم ووطنية قراراتها. ما زلت، وكثيرون غيري، لا نرى سبباً واحداً يجعلنا نحمل على أكتافنا، وأولادنا من بعدنا، عبء ذنب تاريخي، سواء كان ذنباً حضارياً أو ذنباً دينياً أو ذنب عمل إرهابي ارتكبه أفراد أو جماعة من الجماعات. لا أرى مبرراً كافياً لهذا السلوك الاعتذاري الذي صارت تتميز به معظم سياسات وممارسات الدول العربية والإسلامية وسلوكيات ديبلوماسييها ومحاوريها وجانب كبير من مفكريها. لا أرى داع لحوار حضارات يمزج الدين بالسياسة أو لحوار نسعى نحن إليه اعتذاراً أو انكساراً أو مناورة ويأتون هم إليه بشروط وواجبات للتنفيذ، ولا أرى - أصلاً - داع لحوار حضارات ولدينا وزارات خارجية. كاتب مصري.