لا يعرف عمر سبيلاً لقضاء وقته سوى التسكع من مقهى الى آخر ولعب"الدومينو"او"الطاولة"مع أصدقائه الشباب الذين أنهوا دراستهم الجامعية ووجدوا باب الوظيفة مغلقاً في وجوههم. ولأن جدران البيت غير ملائمة لجلوس الرجال، لم يجد عمر واصدقاؤه إلا المقهى"لقضاء الوقت الى حين الفرج!"خصوصاً في ظل الوضع الأمني الخطير. يقول عمر الحاصل على شهادة البكالوريوس في علوم الفيزياء:"لم أجد وظيفة حكومية ولم أعثر على مجال للعمل الحر، لذلك أرتاد المقهى القريب من المنزل حيث اشرب الشاي والقهوة مع الأصدقاء العاطلين من العمل مثلي وندخّن الاركيلة ونلعب النرد. وعندما تغرب الشمس، يعود كلّ منا إلى منزله، لنكرّر الحكاية في اليوم التالي". أما نبيل فيواصل ما انقطع من حديث صاحبه مضيفاً:"انّ الوضع العام يحول دون ارتياد المسارح او السينما او النوادي التي اغلق معظمها ابوابه، ولم يبق امامنا إلا مقهى الحي الذي هو الاكثر أماناً ومتعة لنا". للسياسة حصّة أيضاً في ركن آخر من المقهى الذي يرتاده عمر وأصدقاؤه، احتدم النقاش بين مجموعة أخرى من الشباب حول الانتخابات والحكومة المقبلة. وأكد ياسر الذي فقد عمله بعد الحرب الاخيرة وكان ضابطاً في الجيش العراقي السابق"انّ الشباب يزورون المقاهي القديمة على رغم افتتاح المقاهي الحديثة مراكز الانترنت ومطاعم الوجبات السريعة بسبب البطالة المستشرية بين صفوفهم ونظراً إلى الأجور الضئيلة التي يتطلبها ارتياد مثل هذه المقاهي مقارنة بالأماكن الترفيهية الحديثة. خصوصاً ان هؤلاء الشباب عاطلون من العمل وليس لهم دخل خاص بهم". غير أن للمقاهي البغدادية مكاناً في قلوب مرتاديها، كما انهم يعتبرونها ملتقى للأحبة والأصدقاء خصوصاً تلك المنتشرة في المناطق الشعبية من بغداد. ويقول الحاج ابو غانم انه اعتاد ارتياد المقهى مذ كان طفلاً، ويضيف انه لم يعد يستغني عنه يوماً واحداً فهو"يشعرني بالانتماء الى بغداد الحديثة". ويضيف:"بعد الحرب، لمحت ظاهرة ارتياد الشباب العشريني هذه المقاهي طالبين منا نحن العجائز التحدث لهم عن ذكريات اهل بغداد في احيائها القديمة". ويختلف الأمر بين المقاهي المنتشرة في عموم بغداد وتلك الواقعة في شارع المتنبي مثلاً، هذا الشارع الذي يضم اضخم سوق لبيع الكتب. اذ توصف مقاهي"المتنبي"بأنها ملتقى للمبدعين والمثقفين من شعراء وكتاب وصحافيين، ويعمد زائر"المتنبي"إلى شراء أو تأجير أحد الكتب لقراءته في أحد هذه المقاهي. ومن المقاهي التي تنتشر على طول الشارع هي مقهى الشابندر وعلى بدايات شارع الرشيد توجد مقاه أخرى، مثل مقهى حسن عجمي ومقهى الزهاوي نسبة إلى واحد من اشهر روادها في النصف الأول من القرن الماضي، الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي وكان اسمه عند افتتاحه عام 1893"مقهى الميدان"نسبة الى ساحة الميدان القريبة اليه. ويقول حسن احد اقدم زبائنه:"ان هذا المقهى اشتهر بكثرة مرتاديه من الادباء في فترة السبعينات حتى بداية الثمانينات. ثم أخذته امانة العاصمة عام 1991 وحولته مطبعة ثم استرده ثانية الاديب انور السامرائي بقرار صادر عن القضاء العراقي". ويضيف الحاج نوري الذي اعتاد الجلوس في مقهى الزهاوي وفي المكان ذاته منذ عام 1940:"كان يزور المقهى الوزراء والنواب والضباط الكبار امثال نوري السعيد واحمد بابان ومعروف جاويد، وكبار الفنانين مثل يوسف عمر ومحمد القبنجي. اما اليوم فلا أحد يزوره ولا نجد فيه سوى المتسكعين والمشردين والعاطلين عن العمل". وفي شارع الرشيد مقهى آخر يدعى"ام كلثوم"تأسس عام 1970 وجمع تحت ظلاله محبي"كوكب الشرق"التي تدوّي اغانيها في المقهى على مدار الساعة. ويقول الحاج جواد احد زبائن هذا المقهى:"منذ سنوات، كنّا نسمي هذا المقهى بالجامعة العربية لأن زواره كانوا من مختلف الجنسيات العربية فضلاً عن العراقيين الذين جمعهم حب الاستماع الى ام كلثوم. اما اليوم فاختفى كل هؤلاء بعدما بات المقهى قديماً ولا يستوفي شروط الراحة"، مناشداً هيئة السياحة العراقية"الاهتمام بهذه المقاهي وترميمها لأنها تحمل رائحة الماضي البغدادي الأصيل"التي يتمنى بقاءها من خلال بقاء مثل هذه المعالم.