"يرى كثر من الناس ان الفن مجرد لعب... هو لعب، في رأيهم، رفيع المقام أجل، لكنه في نهاية الأمر ليس أكثر من لعب، لهو وتسلية. وهناك كثر يجلبون الفن كأنهم يرثون لحاله... وآخرون يحتقرونه ضمنياً بوصفه عبثاً... وثمة، طبعاً، من يعدّه ترفاً. ومع هذا فإن الفن عامل أساس في وجود الانسان، ضروري للأفراد كما هو ضروري للجماعات، أكد نفسه ضرورة منذ النشأة الأولى: الفن والانسان لا ينفصمان. فلا فن بلا انسان... وربما لا يمكن أن يكون هناك انسان بلا فن .... بالفن يصبح الانسان أكثر فهماً لذاته وأكثر وعياً. وبه يصبح العالم نفسه أكثر وضوحاً وأنساً وأقرب. والفن وسيلة تجاوب دائم مع كل ما يحيط بنا، ونوع من تنفس روحي شبيه بالتنفس الطبيعي الذي لا غنى عنه لجسدنا. والفرد والحضارة، اللذان لا يرتقيان الى مستوى الفن، مهددان دائماً بالاختناق الفكري وبالاضطراب المعنوي". بهذه العبارات، التي يبدو فيها - للقارئ العادي - شيء من الحماسة الزائدة، افتتح مؤرخ الفن الفرنسي رينيه ويغ، فصول واحد من كتبه الأساسية، بل واحد من الكتب الأساس حول نظرية الفن، في القرن العشرين، وهو كتاب"معنى الفن ومصيره"الذي صدر أواسط القرن العشرين. ويبدو هذا الكلام، في نهاية المطاف، فعل إيمان بدور الفن في حياة الانسان، ينكب المؤلف على تأكيده وتفسيره في بقية الصفحات البالغة نحو 600 صفحة. والحال ان ويغ يبدو في هذا الكتاب مستعيداً، لحسابه ولحساب الفن، معظم الأفكار الفلسفية التي واكبت تاريخ الفن منذ أقدم العصور... خصوصاً ان الكتاب هو، بعد كل شيء، بحث فلسفي في تاريخ الفن، لا يفصل جمالية هذا النشاط الانساني عن كينونة الانسان وتطور المجتمعات... مؤكداً في الوقت نفسه أن أي فن لا يمكن أن يكون معطى مسبقاً، بل هو سيرورة وصيرورة انسانيتان... ومن هنا لم يكن غريباً أن يختم ويغ كتابه بعبارة واضحة - وضوح المفتتح - تقول:"ليس في وسع التاريخ أن يقول لنا ماذا سيكون فن الغد، وإنما على المواهب الخلاقة أن تصنعه...". على رغم أهمية هذا الكتاب، فإنه ليس كتاب رينيه ويغ الأساس... بل هو يبدو أشبه بتطبيق، على صعيد السرد التاريخي لماضي الفن وحاضره، لنظريات كان ويغ نفسه قد فسرها في شكل أكثر تفصيلاً وأكثر ارتباطاً بالبعد الفلسفي، في كتاب له عنوانه"حوار مع المرئي"اعتبر حين صدر في العام 1955، منعطفاً في مسار دراسة علم الجمال وتاريخ الفن. ومع هذا فإن ويغ لم يضع هذا الكتاب دفعة واحدة، كما حال"معنى الفن ومصيره"، بل انه دبّجه من سبع محاضرات ودراسات وكان أصلاً نشرها متفرقة، مستبقاً إياها بمقدمة توضيحية، وخاتماً السياق كله بملحق عنوانه"سيكولوجيا الفن"، قارب كثر بينه وبين نصوص مشابهة لأندريه مالرو. لكنهم رأوا انه في الوقت الذي دنا فيه ويغ من موضوعه بلهجة العالم الفيلسوف، دنا مالرو من الموضوع نفسه بلهجة الأديب الذواقة. ومن هنا اذا كان مالرو يُقرأ للمتعة، فإن ويغ يُقرأ للدراسة المتعمقة. أما الأجزاء التي يتألف منها"حوار مع المرئي"فهي: المقدمة بعنوان"سلطات الصورة"، ثم"ضروب الواقع، ضروب الجمال والشعر"، وپ"مصائر النزعة الواقعية"، وپ"الرسم يبحث عن ذاته"ومن ثم"الرسم يبحث عن ذاته: تركيب اللوحة"، وپ"لغة الروح: قوة الصور"، وپ"لغة الروح، العالم الجواني"، وپ"الفن في مصيرنا"... أما الملحق فحمل عنوان"سيكولوجيا الفن"كما أشرنا. والحال ان العناوين، إذ تأتي مباشرة وواضحة على هذا الشكل، لا تحيط مواضيع دراسة رينيه ويغ بأي التباس، أو إبهام. فالرجل، كما أشرنا، يدنو من موضوعه دنو العالم، وهو يعرف ان موضوعاً مركباً ومعقداً مثل الفن، لا يتعين الدنو منه بأفكار صعبة ومعقدة، بل بأفكار بسيطة هي التي، إذ تتفاعل مع تركيبية الموضوع، تخلق تلك الأبعاد الفكرية التي تسهل على القارئ، ليس فهم الفن، بل فهم موقفه من الفن ودور الفن في حياته. خصوصاً أن رينيه ويغ لم يكن من الذين يتحدثون عن فهم الفن، بل عن الإحساس به. والفارق كبير بين هذين الأمرين، حتى وإن كان دارسون مبتذلون للفن قد أسهبوا دائماً في الحديث عن فهم للفن وإفراط في عقلنته حتى يصبح مجرد رسالة موعظة وربما خطاب ايديولوجي أيضاً. المهم بالنسبة الى رينيه ويغ إذاً، هو ارتباط الفن بكينونة الانسان، طالما ان مفكراً من طينة ويغ كان يمكنه أن يرى كيف ان"الفن قد حقق معجزة ان يكون المكان الأثير لازدهار الحياة الجسدية والحياة الروحية"أي المكان الذي"إذ يتوحّد فيه الانسان مع الكون، توحداً حتمياً ووثيقاً، لا يعود يشعر ان في إمكانه، بعد ذلك، أن ينفصل عن ذلك الوجود". بالنسبة الى ويغ، من الواضح ان هذا التأكيد إنما يوجد حلاً منطقياً - وانسانياً بالتالي -"لازدواجية كانت في الماضي طاغية على علاقة الانسان بالفن من ناحية، وبالوجود من ناحية أخرى". فما الذي يعنيه هذا، في مثل هذا السياق؟ يعني بكل بساطة ان رينيه ويغ اختار ان يقترب، انطلاقاً من نزعة انسانية واضحة، من الأشكال"الأكثر تنوعاً للفن، عبر الزمان والمكان". ما يجعلنا نرى في كتابه"حوار مع المرئي"هذا محاولة جادة، وربما نهائية أيضاً لاستخلاص عدد من الثوابت الأساسية، التي عبرها يمكن التقاط الحقيقة الفنية - التي لم يتوقف الانسان عن محاولة فهمها والدنو منها، منذ رسوم الكهوف الأولى، وحتى أحدث المنحوتات واللوحات المنتمية الى شتى ضروب الفن الحديث. وإذ تنحو ثوابت ويغ النظرية هذه الى محاولة التقاط تلك الحقيقة الفنية، تمكنت في طريقها من توضيح كل ما جرت محاولته من قبل في هذا الاطار - بما في ذلك إلحاح الانسان على البعد الفني في حياته ومحاولة إدراك جوهر علاقته بالفن - ... لأن في مثل هذا التوضيح فقط يمكن فهم جذور المحمول الانساني للعبة الفنية... وبالتالي الجذور والأبعاد الانسانية للفن نفسه، كفعل توحيد للانسان بالوجود. ولافت هنا أن يكون ويغ قد اكتفى بأن يقارب موضوعه هذا، عبر اللوحة وما حققته ماضياً وحاضراً. لقد اكتفى بالتعمق في دراسة الرسم لتوضيح هذا البعد، من دون أن يفوته، إمكان استخدام منابع فنية أخرى مثل النحت والرقص والموسيقى والعمران وغير ذلك. فقط، بالنسبة الى ويغ - وعلى العكس، في هذا المجال من آرنولد هاوزر صاحب"التاريخ الاجتماعي للفن"- يمكن الاكتفاء بدراسة الرسم طالما ان الرسامين كانوا - دائماً - الأوضح توجهاً في عملية"سبر العالم وظواهره"، طارحين على هذا العالم تساؤلاتهم وبالتالي ضروب قلقهم. ويرى ويغ ان الرسام،"بالطريقة التي يطرح بها أسئلته، يحصل على الأجوبة، بل لربما يمكننا القول انه يمليها إملاءً أيضاً". ومن هنا فإن الرسام إنما يقيم دائماً، ذلك الحوار الخلاق مع المرئي عنوان الكتاب. حيث ان الفنان، وإذ يبدو أخرس أحياناً، يكتفي بأن يصغي، وبأن يسجل ما يسمع... وهنا نسميه"واقعياً". لكنه في أحيان أخرى يرفع صوته، يتدخل مغطياً على صوت الأشياء... وهنا يخرج عن الواقعية الجامدة، ويصبح فناناً. وپ"بما أن الادراك لا يعني الدنو من بعض الأفكار والإحاطة بها، بل التسلل الى داخلها، يمكننا القول ان الانسان، عبر العصور كلها، لم يتوقف عن محاورة الوجود، ومحاورة ذاته عبر الوسيلة التي تمكنه، وحدها، من ذلك التسلل... الفن". ورينيه ويغ الذي ولد في العام 1906، وعرف على نطاق واسع كفيلسوف للفن في فرنسا طوال القرن العشرين ليرحل في آخر سنواته، ظل طوال حياته مؤمناً بذلك اللقاء الحتمي بين الانسان والفن والوجود، ومن هنا كانت السلسلة المهمة التي أشرف عليها، متناولاً فيها تاريخ الفن، مع اسم ذي دلالة هو"الفن والانسان"، حيث طبع كل كتب السلسلة.