وسط حماسة العروض التشكيلية الشتوية في بغداد، برز معرضان: إسماعيل فتاح في معرض غرافيكي حفر طباعي للمرة الأولى، وعلاء بشير في معرض تخطيطات، للمرة الأولى أيضاً. الأول احتضنت معرضه قاعة الميزان، حيث نفذت الأعمال حرفياً في مشغلها. والثاني اختار أن يكون مركز صدام للفنون مسرحاً لارتجالات حبره على الورق. وكان دقيقاً في الاختيار. فليس هناك قاعة أخرى بإمكانها أن تستوعب هذا العدد الهائل من الرسوم، المهم لدينا أن الإثنين في معرضيهما هذين قد أسسا لدرسين مختلفين ضمن التأريخ المعاصر للفن التشكيلي في العراق. ففتاح الذي اشتهر نحاتاً، ها هو اليوم يستعرض سلسلة رؤاه الايروسية ترافيكياً، أما علاء بشير فإنه بمعرضه حبر على ورق إنما يعيد الى التخطيط، كونه العنصر الأساس في الرسم، حظوته. ربما يسير الاثنان، بعكس التأريخ. وقد تكون انجازات الرسم في العراق قد تجاوزت اقتراحتهما. ومع ذلك فإنهما لا يحاولان اعادة عقارب الساعة الى زمن محدد. ذلك لأنهما يبغيان استعراض ما طرأ على روحيهما من تحولات. وهما بذلك إنما يقتربان من الجوهر لا كونه خلاصة ذكرى بل كونه محاولة للخلاص من الماضي، ان رسومهما معبأة بالتجارب الشكلية والفكرية إنما تعبر عن نزق الانحراف بكليته حتى وان كان الجسد البشري جامعاً بينها: لدى فتاح شهوانية مترفة تستدعي أصولها واقعياً، ولدى بشير توضيح ميتافيزيقي لما يمكن أن يؤدي اليه عيد الجسد. ولدى الاثنين محاولة لتقريب الجسد من معناه، كونه آلة شقاء وبئر حرمان، رسامان يعذبهما شقاء واحد: الجسد في الوهيته المتفرقة. علاء بشير - الجسد مسرحاً للشقاء منذ أن فك الرسام علاء بشير 1938 ارتباطه بجماعة الانطباعيين صار يجهز رسومه بلغة استفهامية. من شأنها أن تؤدي بمشاهدها الذي هو ضحية قراءة خاصة الى أن يبتكر متاهة تأويل ترضي غروره في الفهم. وكأي سريالي آخر، فإن بشير لا تغريه القراءة البصرية لرسومه، وهو لا يتعاطف مع الأشكال إلا على أساس درجة تفسيرها لفكرة ما. ومثل تانغي وشيريكو ورينيه ماغريت وهم الأكثر استيلاء على هاجسه الشكلي، فإن الصورة لديه تسعى في اتجاه قدر مزدوج: فهي في حد ذاتها تمثل مشهداً يلتحم فيه الواقعي بالمتخيل. غير انها في الوقت نفسه إنما تمثل لحظة اتصال مبهمة بما يمكن اعتباره افتراضاً، الحقيقة في لحظة من لحظات يأسها أو تماهيها. ان علاء بشير بحكم مهنته الطبية، جراحاً، رجل يقف عند الحافة الوجودية دائماً. وهو لذلك قد اكتشف أن مادته، التي هي الجسد البشري، لا تعينه. فما يراه منها، حتى وهو يزيح عنها قشرتها المضللة، لا يكفي دائماً لانعاش حياة من النوع الذي يمكننا من العيش في مفترق طرق. فهي تؤسس لنمط بشري لا يرعى تأريخاً، نمط بإمكانه أن يحيا، لكن في درجة الصفر من الحياة. ولهذا، فقد اتجه علاء بشير الى الألم قاموساً ممتنعاً عن ابتكار الصفات. لقد مضى هذا الرسام الى الألم لا ليصفه بل ليجرده من وحشيته. ليضعه بيننا بكل حذلقته التي قد تشكل له عوناً في مشواره الانسي الجديد. وهو هنا انما يسعى الى تحييد الألم. غير ان سوء الفهم لدى المتلقي قد يمكّن الألم من الاستيلاء على ضمائرنا ووعينا الداخلي. وهنا تبرز شراكة المتلقي وهو يعزف عن إدراك الصورة شكلياً بمعزل عن قيامة معناها. لقد صارت رسوم علاء بشير بكل فزعها الأيقوني بمثابة ركن اعتراف بالنسبة للكثيرين. هنا، في معرضه حبر على ورق يقدم نتاجاً ظلياً لتجربته الأساسية. وهو عرض ليس مقصوداً لذاته. فمئات التخطيطات التي احتواها المعرض هي خلاصة منتقاة من جهد عشرين سنة قضاها الرسام وهو ينشىء تمديناً جمالياً بشروط تقنية ذات أصول ودوافع غامضة. بعضها يخص تجربته الأساسية في صنع لوحة ما. أما البعض الآخر، وهو الأكثر، فقد جاء مستقلاً. ولذلك يمكنني القول ان تخطيطات بشير في معرضه الفريد من نوعه هذا لا تمثل رسوماً تمهيدية، هي رسوم مستقلة. كل ورقة منها استوعبت فكرة ما. أو لنقل أنها سمحت لجزء من فكرة في التسلل الى وجودها البراني. وإذا ما كان علاء بشير قد سمّى معرضه حبراً على ورق بقصد الوصف المتطابق فإن إهداءه الى من اخترع الكتابة ينطوي على نوع من الخدعة المضللة، فاختراع الكتابة، في أهم معانيه، نهاية عصر تصويري خالص. وفي الوقت نفسه فإنه يعني التفات التصوير الى حساسيته المضمرة، بعيداً عن هاجس الاتصال. يحاول الرسام، هنا، أيضاً أن يقيم في مفترق طرق. فحرية الرسم لم تبدأ إلا مع اختراع الكتابة، حيث عكف البشر على احتواء حياتهم بأشكال لا تنتج رسوماً. وفي كل الحالات، فإن علاء بشير يرى دائماً في الجسد البشري مفتتحاً لأية خدعة. تسحرنا خطوطه المتصلة وهي تلتهم جسد الأنثى كما لو أنها تستذكر خطوط ماتيس، وفي المقابل، فإنها تتشظى متكسرة لتحيلنا الى كابوس ذكوري يكون فيه الرأس شاهد يقظة مرجأة. المهم، لدى هذا الرسام، حتى وان تمهلت رسومه قليلاً ازاء لوعتها الغنائية، ان تكون لحظة الشقاء حاضرة: استفهامياً على الأقل. نوعان من البحث ازاء الجسد الإنساني شغلا هذا الرسام، في معرضه الحالي: الجسد كونه أية خلق واقتراح جماليين، والجسد كونه مسرحاً للجريمة، وفي الحالين يبدو الرسام مستعداً لالقاء موعظته الدفاعية. حجته التي لا تخفف من حجم فشله ازاء ما فاته من صفات هذا الجسد المعرض للفناء في أية لحظة. فهذا الرسام إنما يستعرض لحظات شقائه، هو، ليس إلا. في نومها وفي غنائها، في رجائها وفي نكوصها، في اشراقها وفي يأسها، في فراغها وفي اكتفائها، يصف ندمه، حيث يهتدي الى الشكل المناسب لهذا الندم. علاء بشير في معرض تخطيطاته لا يستأنف ظناً قديماً، إنما يوقعنا مجدداً في ندمه القديم: كيف يمكن أن نكون أسرى لجسد فانٍ؟ اسماعيل فتاح في متاهة الجسد طوال ثلاثين سنة ظل اسماعيل فتاح 1936 حريصاً على أن يعود الى الرسم. فكانت عودته المتقطعة هذه بمثابة لحظات استراحة يقضيها فنان غلبت عليه صفته النحتية وهو يحاول الاسترخاء ومطاردة أحلام، تعطيها رقتها وشفافيتها ملمح العدو لصلابة النحت. كان فتاح في الرسم غيره في النحت. بعكس كل النحاتين الذين رسموا. وعلى رغم أن رسومه بكل ما كانت تحفل به من بساطة ومرح وعشوائية وتلاقيات مجانية كانت تمثل حدثاً لافتاً ومثيراً، غير أن فتاح لم يعتصم بهذه النظرة النقدية. وكان رد فعله التلقائي هذا برأيي إنما يعبر عن خشيته من أن يحرمه تصديق ما يقوله الآخرون من المضي في لعبته. كان الرسم يومها بالنسبة اليه انهماكاً روحياً يتخذ شكل التسلية. وكانت دعاباته هذه لا يمكن تحقيقها في النحت. حيث طغت على أسلوبه النحتي نظرة الإنسان المنفي المغترب، المستوحد، المتمسك بعنف ببلاغة ندمه وأسفه. وإذا ما كان النحات الإنكليزي هنري مور قد قال ذات مرة "أحياناً أرسم لمجرد المتعة"، فإن متعة إسماعيل فتاح في الرسم هي متعة مختلفة. خصوصاً بعد أن انقطع بشكل يكاد يكون كلياً اليه في السنوات الأخيرة، فهي متعة المكتشف والرائي والمشوش والهذياني والحالم والمستبصر. وحين تتخذ رسومه شكل سلسلة فذلك معناه انه يرغب في الاستمرار في تقشير هذا الكون من التداعيات والاسترجاعات والذي عثر عليه بالصدفة عن طريق الرسم. قد لا يمنحه اللعب هنا براءة اختراع، فلقد سبقه الرسام الأميركي ويليام دي كوننغ في استلهام جسد المرأة عن طريق اللعب الذي كان يقوده أحياناً الى التجريدية. ولم يحدث هذا التحول إلا بسبب الاستغراق صوفياً في الموضوع. حيث يحل اللامرئي محل المرئي. غير أن فتاح يتمسك بما يرى، ولا يرغب في أن تسطو الرؤيا على متعته الحسية. وانحيازه الى بصره يدله الى مواقع أكثر رقة في الرسم منها في الجسد الأنثوي. كمن يدخل في منافسة لاختراع حلول جمالية لجسد مخلوق سلفاً. وهنا يخص التحدي الناظر لا المنظور اليه. وحرية النظر هنا تكسب الموضوع حرية مستلهمة من داخله. ان اصرار اسماعيل فتاح على أن لا يبدو جاداً في رسومه أمر لا يفهمه الكثيرون هنا. جمهوراً ونقاداً ورسامين. ذلك لأن تأريخ الرسم الحديث في العراق يخلو إطلاقاً من أية رغبة في التهكم أو اطلاق دعابة. لقد مضى هذا التأريخ في اتجاه مصيره مقيداً بصرامة مفتعلة سببها توهم الرسامين الوظيفي: كونهم قادة مجتمع وقدوة. ولهذا فقد أنتج الفنانون العراقيون طوال نصف قرن من الفن الحداثوي رسماً جاداً لا تتسلل اليه الفكاهة، ولا حتى عن طريق التجربة الشخصية المباشرة. لوحات لا تقبل الخطأ. مهيأة لكي تكون درساً أو موعظة أخلاقية، كل هذا اخترقه اسماعيل فتاح لا لشيء إلا لأنه قرر أن يتسلى. فكان أن أنتج عبثه المجاني تاريخ عناد، لا لأن نساءه اللواتي تحفل بهن لوحاته ما كان بإمكان رسام عراقي أن يرسمهن بهذه الطريقة الفاجرة، فحسب، بل لأن هذا الرسام استقوى على الرسم العراقي بكل صرامته لكي يستثني شجاعته الشخصية من ضعف الرغبة في الانضمام الشكلي والتقني فتحين فرصته لكي يمسك بأشكاله وتقنياته، التي هي مرآة لبوحه الداخلي. وهكذا يكون اسماعيل فتاح قد وضع خطاً لبداية تأريخ فني مختلف. هو تأريخ حرية أخرى. غير الحرية التي عرفها الرسم الحديث في العراق منذ الخمسينات وحتى اليوم. وهي حرية اهلة بكل التوقعات. ذلك لأنها لا تخفي احترامها لما تراه وفي الوقت نفسه تحرث أرض أحلامها. وهكذا يكون المشاهد إزاء رسوم اسماعيل فتاح سعيداً، لأنه يرى عالمه مجرداً من كل زخرفة. هو العالم الحقيقي المتخيل، بكل ما يحفل به من أسرار. وقد لا يرسم فتاح إلا وجهاً، أنثوياً بالتأكيد، غير أن هذا الوجه يستوقفنا فضائحياً. ففيه شهوة مستترة استطاع الرسام أن يعبث بها ليثيرها، كلاماً عابراً أو لغة مقيمة. وهنا يكون الرسام قد وضعنا في قلب محنته: كيف يمكن التستر على ما لا يخفيه جمال الجسد؟ لقد عثر اسماعيل فتاح في جسد الأنثى على متاهته. هذه المتاهة التي يلذ له أن يكون مفقوداً فيها.