يروي الكاتب الفرنسي ستندال في كتابه «مذكرات سائح» كيف أنه حين وقف للمرة الأولى أمام لوحة حقيقية لمواطنه الرسام جورج دي لاتور، لم يجرؤ على أن يجد في اللوحة أكثر من «حقيقة قاسية منفرة» في عمل «إسباني النزعة» يمكن «بكل بساطة نسبته الى رسام البائسين الإسباني موريو». صحيح أن ستندال سرعان ما يضيف ان هذا لم يَعْن أن اللوحة التي كان ينظر اليها كانت تخلو من سحر حقيقي «بألوانها العاقلة الحكيمة» وتعبيرها الذي يبدو شديد القرب من الواقع، لكن ستندال بصفته من كبار متذوقي الفنون الإيطالية والفرنسية، رأى أنه أمام مثل تلك اللوحة، لا يمكنه أن يكون ذا موقف واضح ونهائي، لأنه لاحظ كيف أن الرسام يبذل «جهداً كبيراً وملتبساً» لكي يصف لنا موضوعاً شديد البؤس بواسطة وسائل تنتمي الى الثقافة الفنية العليا. والحال أن ما يقوله ستندال عن تلك اللوحة التي شاهدها خلال تجواله، يمكن أن يقال عن معظم اللوحات التي حققها دي لاتور خلال مرحلة نضجه الكامل، ذلك أن لوحات هذا الفنان أثارت الدهشة دائماً، إن لم يكن بمواضيعها فعلى الأقل بأسلوب تعبير الفنان عن تلك المواضيع، عبر لعبة ضوء وظل تذكّر بأعمال كارافاجيو أو تسورباران، وعبر ألوان تكاد تكون أحادية، أو على الأقل متمركزة - حتى ولو تعددت - من حول لون واحد يشغل الجزء المحوري من اللوحة. فإذا أضفنا الى هذا ذلك المزج المدهش الذي كان الرسام يعتمده بين المواضيع الدينية والمواضيع الدنيوية، بحيث لا يعود من الواضح لديه متى يكون الموضوع معبراً عن حكاية أو موقف ديني، ومتى يكون مستقى من الحياة اليومية للناس، يمكننا أن نفهم كيف كان فن دي لاتور، طوال قرون عدة، محوراً لسجالات لا تنتهي. والحال ان التقريب بين دي لاتور وكارافاجيو لم يكن صدفة ولا تعسفياً. إذ لطالما دنا دي لاتور من مواضيع كان سبق لرسام ايطاليا الكبير والغريب الأطوار ان دنا منها في ما بدا وكأنه إعادة تفسير لها، تشهد على هذا، مثلاً، لوحة «الغشاش» التي إضافة الى أبعادها اللونية التي تستخدم الأسود خلفية - كما كانت حال أعمال كارافاجيو - تتضمن «دراسة» معمقة لسيكولوجية شخصياتها. ولئن كانت لوحة دي لاتور هذه، اشتهرت انطلاقاً من دنوّها من أعمال كارافاجيو، فإن الأشهر قاطبة بين أعمال هذا الرسام الفرنسي الواقعي - في شكل مبكر - كانت لوحته «الطفل الوليد» الموجودة الآن في متحف الفنون الجميلة في مدينة رين في الغرب الفرنسي. وعلى رغم أن هذه اللوحة صغيرة الحجم، إذ لا يزيد عرضها عن 91 سنتم، وارتفاعها عن 71 سنتم، فإنها عرفت كيف تحافظ على مكانتها على مدى تاريخ فن الرسم، والرسم الفرنسي في شكل خاص، من خلال غرابتها، ثم لأنها تمثل خير تمثيل الأسلوب الذي عُهد عن دي لاتور، بكل صفائه وقوته. والحقيقة أن لوحة «الطفل الوليد» تكشف في شكل جيد عن أن واقعية دي لاتور تختلف كثيراً عن واقعية لوي لونان معاصره، والذي كان واحداً من ثلاثة إخوة أسّسوا للواقعية الحقيقية في فن الرسم الفرنسي. صحيح أن دي لاتور ولوي لونان كانا يتشاطران الاهتمام بمصير البسطاء على وجه الأرض، غير أن واقعية دي لاتور كانت أكثر ميتافيزيقية، وبالتالي أكثر التباساً، إذ، إن نحن أخذنا لوحة «القديس يوسف، نجاراً» لدي لاتور، سنجدنا أمام لوحة واقعية تمثل حياة نجار حقيقي منهمك في عمله بكل تفاصيله الدقيقة، على ضوء شمعة تمسك بها فتاة تعينه في عمله. هنا، اذا غاب عنوان اللوحة، الذي وحده يحيل الى البعد الديني للشخصية، سنجد أنفسنا أمام لوحة على النمط الهولندي: لوحة مهنة وصاحبها، تتخذ معظم أهميتها من لعبة توزيع الضوء والظل بفضل موقع الشمعة. ان شمعة مثل هذه هي التي تنشر الضوء، كذلك في لوحة «الطفل الوليد»، غير أننا هنا لا نشاهد الشمعة أبداً على رغم اننا نعرف أن المرأة الغامقة الثياب هي التي تحملها مخفيّة خلف يدها اليمنى التي ترفعها، إما بتحية إكرام للوليد - ما قد يضفي على اللوحة طابعاً دينياً لطالما استبعد من جانب الباحثين - وإما لكي تداري بها الشمعة من هبوب الريح، ما يعيد الى اللوحة طابعها اليومي الواقعي - وهذا هو الأكثر ترجيحاً بالطبع -. المهم ان توزيع الضوء هنا، انطلاقاً من مصدره «الخفيّ» الذي يتوسط اللوحة، هو الذي مكّن الرسام من أن يقدّم عملاً قوياً في تعبيره عن الواقع. فالشخصيات المرسومة هنا تبدو أقل تعرضاً للإضاءة مما في لوحات أخرى للرسام نفسه. غير أن الظل سرعان ما نراه يعطي الوجوه سمة خشبية لامعة - تذكر بعض الدارسين بلوحات الإسباني تسورباران -. وكما للدنو أكثر من أسلوب تسورباران، نلاحظ كيف أن دي لاتور يقلل قدر الإمكان من عدد الألوان التي يستخدمها. ونلاحظ كيف أن ظهر المرأة حاملة الشمعة يكاد يمتزج تماماً باللون الزيتي المسود الذي يشكل خلفية اللوحة، بأسلوب لم يكن معهوداً لدى الفرنسيين في ذلك الحين. والحال أن انتشار الألوان الغامقة في اللوحة يأتي كما لو أن وظيفته لفت النظر الى ثوب الأم ووجهها ووجه وليدها وقماطه، إنما من دون أن يتعمد الرسام جعل هذا التوزيع الضوئي في اللوحة ذا بعد روحي. ومن هنا رداً على تساؤلات كثر من الباحثين الذين خيّل إليهم أن اللوحة ذات بعد ديني، كان ثمة دائماً باحثون يؤكدون العكس: بالنسبة الى دي لاتور كانت كل ولادة لطفل جديد في هذا العالم تحمل أسرارها ونورها، بحيث إن البعد العاطفي التأثيري للوحة يظل هو نفسه مهما كانت حقيقة الموضوع الذي شاء دي لاتور أن يرسمه. ومهما يكن من أمر، فإن من الواضح أن الموضوع لم يكن هو ما يهم دي لاتور في هذه اللوحة في شكل خاص. كان همه، بالأحرى، منصبّاً على تقديم أسلوبه «الكروماتي» - الأحادي اللون - الذي نراه يهيمن على الكثير من لوحات أخرى له، سواء كانت واقعية أو غير واقعية، محاولاً أن يطلع من قلب اللون الواحد بدلالات عدة مؤثرة وعاطفية. ومن المرجح أن دي لاتور لم يتأثر، في هذا، بأستاذ التلوين الكبير كارافاجيو، بل بعدد من الذين قلدوا هذا الأخير، ولا سيما بالهولندي هونتهورست، حيث من المؤكد أن أمثال هذا الأخير من كبار المعلمين الهولنديين، هم الذين أورثوا دي لاتور حب التأثيرات الضوئية، ولعبة الاعتماد على مصدر واحد للضوء، سواء كان هذا المصدر واضحاً أو خفياً. عاش جورج كينتين دي لاتور بين عامي 1704 و 1788. وهو بعد أن ولد في سان - كنتين، توجه الى باريس في الخامسة عشرة لكي يتعلم فن الرسم ويجعل منه حرفته. وهناك قيض له، منذ بدايته، أن يتتلمذ على أستاذ هولندي. وفي عام 1724 حين كان يشارك في مؤتمر كامبراي الذي حضره سفراء أجانب راحوا يتبارون في مظاهر الترف وحب الفن، لفت دي لاتور نظر السفير الإنكليزي، بحبه للفن وسرعة استجابته لخوض الأساليب الجديدة، فدعاه الى لندن حيث عاش عامين وسط الحركة الفنية التي كانت ناشطة هناك. وهو بعد عودته الى فرنسا، راح ينوّع أساليبه ويرسم بالزيت والماء، ووصلت شهرته الى القصر الملكي. وفي العام 1737 انضم الى الاكاديمية وصار له من الشهرة ما يكفيه طوال عمره، كما صار له مقلدون في أسلوبه وتلوينه. غير أن النجاح الكبير الذي حققه، سرعان ما انعكس سلباً على شخصيته، إذ صار صعب المراس دائم السخرية من الآخرين والاستخفاف بهم ووصل لسانه السليط الى الملك لويس الخامس عشر وعشيقته مدام دي بومبيدور، ما جرّ عليه الكثير من المشكلات، التي اذا أضيفت الى بخله الشديد، وارتفاع تسعيره للوحاته كان من شأنها أن تقلل من قيمته، لكنها في الحقيقة لم تفعل. بل على العكس. أما نهايته فأتت حين أصيب خلال السنوات الأخيرة من حياته بلوثة عقلية جعلت عقله يعود طفلاً. فعاد الى مسقطه حيث عاش أربع سنوات في جنون مطبق مات على أثرها في العام 1788. [email protected]