إن كان الاستقرار الأمني والسياسي من الشروط الضرورية للنمو الاقتصادي المستدام، فإنه ليس كافياً ما لم تتوافر بيئة أعمال ملائمة ومناخ استثماري محفز قوامهما: إدارة عامة شفافة وكفية، وخدمات مصرفية وتمويل عالية الجودة والاعتمادية، وسياسة نقدية مستقلة وذات صدقية، وسياسة أجور وأسعار فعالة ورشيدة، وسلطة قضائية مستقلة وفعالة، مع أقل قدر ممكن من الأنشطة غير الرسمية السوق السوداء. فإلى أي مدى تتوافر هذه المتطلبات في لبنان؟ وما الذي يمكن فعله لتوفيرها في الوقت الذي يحاول تعزيز سيادته واستقلاله وإعادة وضع اقتصاده على سكة التطور والنمو؟ هذا ما سيتم تناوله في ما يلي لكل بعد من الأبعاد السابق ذكرها أعلاه. البيئة الإدارية والمؤسسية عملت الحكومات اللبنانية المتلاحقة على تطوير البيئة الإدارية والمؤسسية وتحديث القوانين والإجراءات، ووضعت خططاً وبرامج بالتعاون مع الهيئات الدولية. إلا أن القليل منها قد وجد طريقه إلى الاعتماد والتنفيذ حتى الآن. ويلخص الوضع الراهن لهذا البعد في شكل خاص، ولبيئة الأعمال في شكل عام، مسح أجرته"الإسكوا"لبيئة الأعمال اللبنانية عام 2001، والذي يعكس حجم التحديات التي تواجه الدولة والمجتمع اللبناني في ورشة تهيئة بيئة أعمال محفزة للتنمية. حيث جاء فيه ما يأتي: "ان المعوقات الرئيسة للأعمال تتمثل في: البيروقراطية والتعقيدات الإدارية، ونقص في الشفافية، والفساد، وإجراءات جمركية بطيئة ورسوم عالية، وأخلاقيات عمل ضعيفة، وتغيرات غير متوقعة في السياسة الاقتصادية، وتجهيزات أساسية ضعيفة، وإجراءات ضريبية معقدة. إضافة إلى ذلك، تواجه الشركات المبتدئة صعوبة في مرحلة التأسيس، منها إجراءات إدارية معقدة للحصول على الموافقات والتصاريح". ومع أن لبنان لا يميز بين الاستثمارات الوطنية والأجنبية في معظم القطاعات، وعلى رغم اتخاذه خلال السنوات الأخيرة خطوات عدة لجعل المناخ الاستثماري أكثر جاذبية، إلا أن الكثير من الحواجز المذكورة أعلاه لا تزال قائمة. حيث ان بعض الشركات الأجنبية قد غادرت أو قررت نقل مكاتبها الإقليمية إلى دول مجاورة، أو امتنعت عن الاستثمار في لبنان بسبب الإحباط الناتج من تلك الحواجز. إذ يلاحظ أن أقل من 1 في المئة من الشركات الصناعية أجنبية الملكية. إن الإدارة الحديثة، لا تسمح بالاستنساب سواء في مسار الإجراءات والمعاملات أو مواعيدها. كما أنها ترشد تلك الإجراءات من خلال جعلها شفافة وغير معقدة مما يمنع الفساد. كما تحد الإدارة الحديثة من التدخل، على المستويات الإدارية كافة، في مسار المعاملات من جانب المراجعين، وتمنع الوسطاء، وتوفر الشباك الواحد لمعاملات العملاء وتحدد الأمداء الزمنية بدقة وتفرض الالتزام بالمواعيد. فلا شك في أن الإجراءات المعقدة وكثرة الموافقات التواقيع المطلوبة، هي بمثابة نافذة للفساد إلى الإدارة، وليست لحفظ الحقوق كما يعتقد البعض. على صعيد آخر، فإن مهمات التدقيق والمراقبة الداخلية والخارجية ضعيفة جداً أو غائبة في بعض الجهات الحكومية والمؤسسات العامة، مما يضعف كفايتها. الخدمات المصرفية والتمويل يتميز قطاع الخدمات المصرفية والتمويل اللبناني بمستوى منخفض من المعوقات، ويعتبر النظام المصرفي أكثر نظم المنطقة ليبرالية، حيث هناك عوائق قليلة أمام قيام مصارف وطنية أو أجنبية. كما يتمتع بنسبة احتياطي عالية. وكان تم شطب لبنان عام 2002 من قائمة الدول غير المتعاونة مع الجهود الدولية لمكافحة غسل الأموال. إن هذا الوضع الجيد للقطاع المصرفي اللبناني ينسجم مع عراقته وديناميكيته المتمثلة بقدرته العالية على التأقلم مع المستجدات والتغلب على الصعوبات الجمعة التي واجهته خلال العقود الثلاثة الماضية. ويرتبط التحسن المستقبلي في أداء هذا القطاع وإسهامه في عملية التنمية مباشرة بمدى تطور الأوضاع الأمنية والسياسية نحو الاستقرار المنشود. وتجدر الإشارة إلى أن توافر الاستقرار السياسي والأمني، مع تعزيز بيئة الأعمال ومناخ الاستثمار، ستسهم في تمكين القطاع المصرفي اللبناني من الاستفادة من توظيف وفورات العائدات النفطية المتزايدة في المنطقة وتوجيه بعضها نحو السوق اللبنانية وأسواق المنطقة الأخرى. وقد تكون فرصة ثانية قد لا تتكرر بعد ضياع الفرصة الأولى في السبعينات بسبب الحرب الأهلية التي كان القطاع المصرفي من أوائل ضحاياها. أما بالنسبة الى التمويل، فإن الجهود الحالية الهادفة إلى خفض أعباء الدين العام، ستؤدي في حال نجاحها، إلى خفض أعباء التمويل الحكومي وبالتالي تعزيز الاستثمارات الخاصة. حيث ان الكثير من مقترضي القطاع الخاص يتم إخراجهم حاليا من السوق نظراً لأن ما يزيد على 60 في المئة من القروض تذهب إلى الحكومة. السياسة النقدية بناء على بيانات صندوق النقد الدولي بلغ المتوسط السنوي المرجح لمعدل التضخم 1.3 في المئة للفترة من 1994 حتى 2003، وهو معدل منخفض ساهم في الحفاظ على مستويات الدخل في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. وقد جاءت هذه النتيجة بسبب عوامل عدة كان أبرزها: اعتماد سياسة ربط العملة الوطنية بالدولار الأميركي والدفاع عن سعر الصرف، وبيئة عالمية اتسمت بانخفاض الضغوطات التضخمية، وبيئة محلية اتسمت ببطء النمو الاقتصادي. وقد كان العامل الأبرز الانسجام بين السياستين النقدية والمالية نتيجة التعاون المثمر بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري وفريقه من جهة وحاكمية مصرف لبنان من جهة أخرى. فيما لو لم يتوافر هذا التعاون، فربما جاءت النتائج مختلفة. ونظراً لأهمية استقلال السياسة النقدية في ضمان كفايتها، حيث لا يمكن ضمان التعاون والتنسيق المطلوب في كل وقت، فالأفضل أن تتم صيانة هذا الاستقلال وتنظيم التنسيق بينها وبين السياسة المالية والاقتصادية من خلال تطوير قانون النقد والائتمان. فالقانون الحالي لا يوفر كامل متطلبات الاستقلال للبنك المركزي وموضوعية التنسيق المطلوب. ونشير في هذا الإطار إلى تقرير صندوق النقد الدولي ايار/ مايو 2005 حول مدى تقيد لبنان بالمقاييس والقواعد المتعلقة بالشفافية المالية، حيث جاء فيه:"خلال العامين 2002 و2003 وفر البنك المركزي تمويلاً كافياً للحكومة، نظراً لأن هيمنة الهم المالي خلال الأزمة المالية التي شهدتها تلك الفترة، وأهمية تنفيذ برنامج باريس-2، قد ولدت ظروفاً استثنائية استدعت توفير التمويل من البنك المركزي. إلا أنه وفي ضوء مستوى الدين العام العالي، فإن حماية استقلالية البنك المركزي تعتبر حيوية لتجنب المخاطر الأدبية moral hazards الناجمة عن انحرافات إضافية في السياسة المالية". كما جاء في التقرير"أن الإطار التنظيمي للبنك المركزي يتضمن عناصر تضعف من استقلاله، مثل قيام وزير المال باقتراح المرشحين لمنصب الحاكم ومناصب نوابه وتعيينهم من جانب مجلس الوزراء. كما أن المجلس المشرف على البنك يشمل بين أعضائه ممثلاً عن كل من وزارة المال ووزارة الاقتصاد، علماً أن القانون يحظر على هؤلاء التدخل في إدارة البنك". إنه مثال، من بين أمثلة عدة في النظام اللبناني، على عدم الانسجام بين الأهداف والمبادئ التي ينص عليها الدستور من جهة وبين الآليات المعتمدة لتحقيق تلك الأهداف وتجسيد تلك المبادئ من جهة أخرى. فقد يكون من الأفضل أن يتم ترشيح الحاكم من جانب مجلس الوزراء والموافقة عليه من المجلس النيابي. ويفضل ألاّ تتمثل وزارة المال ووزارة الاقتصاد في المجلس المشرف على البنك المركزي وتحديد التنسيق المطلوب بينهما في قانون النقد والائتمان. سياسة الأجور والأسعار يعتبر مستوى تدخل الدولة في تحديد الأسعار والأجور متوسطاً. إذ تقوم إدارة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة بتحديد أسعار الخبز ونوعيته وأسعار المشتقات النفطية، وتراقب تاريخ انتهاء صلاحية المواد الاستهلاكية. كما تقوم الوزارة بإجراء مسح لأسعار المواد الاستهلاكية في الأسواق المركزية كل شهرين، وتحدد وزارة الصحة أسعار الأدوية. إضافة إلى ذلك تقوم الحكومة بدعم بعض المحاصيل مثل التبغ على سبيل المثال، وتؤثر بشكل غير مباشر في أسعار الخدمات كالكهرباء والمياه، وتضع بالتالي حداً أدنى للأجور. إن سياسة تحديد الأسعار للسلع والمنتجات التي تتيح المنافسة غير احتكارية بطبيعتها ومراقبتها، ومع افتراض كفاية التطبيق - وهو افتراض صعب جداً - تبقى محدودة الفعالية نظراً لافتقارها الطبيعي الى مرجعية موضوعية، مما يجعلها عرضة للاستنساب في كثير من الأحيان. كما أن التطبيق الفعال لهذه السياسة يتطلب إمكانات بشرية وفنية كبيرة قلما تتوافر بالقدر المطلوب. لذا يجدر ألا تكون سياسة تحديد الأسعار بديلاً للمنافسة الصحيحة في أسواق السلع والخدمات. الأمر الذي يستوجب مكافحة كل الممارسات الاحتكارية بأشكالها المختلفة مع وجود هيئة مستقلة لمكافحة الاحتكار علاوة على تطوير القوانين التجارية ذات العلاقة. أما الخدمات ذات الطبيعة الاحتكارية، فلا بد من تحديد أسعارها وضمان جودتها من خلال هيئة منظمة مستقلة وفعالة. ولا شك في أن استعادة سيادة الدولة السياسية والأمنية على كل أراضيها ستعزز من قدرتها على وضع القوانين اللازمة وتطبيقها بكفاية، علاوة على تمكينها من مواجهة الممارسات الاحتكارية ومظاهر الغش التجاري. السلطة القضائية وحقوق الملكية يتأثر هذا البعد إلى حد كبير بمدى استقلال السلطة القضائية وحصانتها من التأثيرات السياسية والأمنية. كما يتأثر بكفاية إجراءات التقاضي وحداثة القوانين والتشريعات وشفافيتها. ويعتبر القضاء اللبناني في الوقت الراهن مستقلاً إسمياً في ضوء التدخلات الأمنية والسياسية في شؤونه من جهة، والتأثير البالغ للادعاء العام في القضاة من جهة أخرى. كما أن كفاية المحاكم تحتمل الكثير من التطوير، حيث تمتد المقاضاة فيها الى فترات طويلة قد تبلغ سنوات عدة. ويتداخل هذا البعد أيضاً مع عدم استقرار بيئة التعاقد المتمثل بتكرار حالات إلغاء العقود الحكومية، أو عدم التقيد الكامل للدولة بالتزاماتها. ومن المهم التذكير بأن حق الملكية هو من الحقوق الإنسانية الأساسية. وهو كغيره من الحقوق الإنسانية لا تمكن حمايته إلا من خلال سلطة قضائية مستقلة، ومحصنة ضد أي تدخل في شؤونها. وبالتالي، فإن أي برنامج إصلاحي لا يتضمن تحصين استقلال السلطة القضائية وتعزيز قدراتها، وترشيد القوانين والإجراءات وتطويرها، سيخفق حتماً في تحقيق أهدافه وغاياته الاقتصادية والاجتماعية. ومن المعروف أن السلطة القضائية لحقها الضرر البالغ خلال السنوات الماضية من تفاقم التدخلات الأمنية والسياسية في شؤونها، لتضاف إلى الضعف العام الذي أصاب كل السلطات الدستورية جراء انهيار السلم الأهلي. الأمر الذي لم يتح الظروف المناسبة لإعادة بنائها وتطوير القوانين والتشريعات لتواكب متطلبات الاقتصاد الحديث. ولا بد من أن تستهدف عملية التطوير، ترشيد مهل التقاضي، أي الحد من الاستنساب في المهل مهما كانت مبرراتها. إذ ان هذا السلوك يلحق ضرراً كبيراً ببيئة الأعمال ومناخ الاستثمار وحقوق المواطنين. كما أن احترام العقود هو ركن أساس من أركان بيئة الأعمال الصحيحة، بغض النظر عن سلامة بعضها. ومما يزيد من احتمالات فسخ العقود الشوائب التي ترافق عملية إعدادها في بادئ الأمر والتي تأتي غالباً نتيجة الفساد الإداري وتداخل المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة. السوق غير الرسمية يشهد لبنان نشاطاً مرتفعاً في السوق غير الرسمية. ونشير في هذا الصدد إلى تقويم مؤسسة الشفافية العالمية لعام 2005. حيث احتل لبنان المرتبة 83 في الترتيب العالمي، وهي المرتبة ذاتها التي حصلت عليها جمهورية روندا، ليأتي بعد المغرب 78، وسورية والمملكة العربية السعودية ومصر 70، والكويت 45، والأردن 37، والبحرين 36، وقطر 32، وعمان 28. علماً أن إيسلندا حلت في المرتبة الأولى، وجمهورية تشاد في المرتبة الأخيرة 158. لا شك في أن الهيمنة الخارجية والجزر الأمنية الموجودة على الأراضي اللبنانية تسهم في هذا الوضع غير المرغوب، إلا أنها ليست العامل الوحيد خلف هذه الظاهرة. إذ ان الكثير من العوامل التي تم تناولها أعلاه، تسهم إلى حد كبير في تنشيط السوق غير الرسمية، وذلك على حساب موارد الخزينة، وبيئة الأعمال، ومناخ الاستثمار. خبير لبناني في شؤون التنمية